تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه صمويل فيبر :
pp صمويل فيبر: إن لم يخن الظن، فإن جانبا من الافتتان الذي يجذب الأمريكيين إلى المغرب، قد يعود إلى فكرة الصحراء، كفضاء غرائبي إن لم يكن فراغا، نصادفها في الوقت الذي تشرع فيه التخوم في إظهار حدود أمريكا. إن الأزمة العالمية لسنة 1929 عززت هذا معنى للانغلاق، وإغلاق الحدود، واستنفاذ «الفرص اللامحدودة»، التي كانت دوما بمثابة الحل السحري في أمريكا، «أرض الفرص»؛ كغالبية الأمريكيين المهاجرين من بلدان أخرى، بحثا عن هذه الفرصة. فمن الثابت أننا نفتش عن هذه الإمكانات في بلدان أخرى، حينما نفتقدها في ديارنا. إن كل ما قلناه لا يكفي لتفسير العلاقة النوعية التي تربط الأمريكيين بالمغرب؛ لأنه ينسحب أيضا على كل بلد أجنبي. لكن لعله يلعب دورا، في تجارب بعض الأمريكيين أيضا، في المغرب. من المؤكد أنه للمضي قدما، ينبغي مناقشة نصوص نوعية، متفردة دائما، وهو ما لا يتاح لنا فعله هنا [في بلداننا]. لكن في كل الأحوال، فإن هذا المنظور-الذي بجعل الأمريكيين يحافظون على تقاليد أمريكية، وهم يهاجرون من بلدهم الأصلي إلى بلد آخر- يقوي ويعقد ما قاله الخطيبي عن الأمريكيين: كونهم لا ينظرون إلى الآخرين، بل يكتفون بالنظر إلى أنفسهم في المرآة. فالمشكلة الوحيدة، أننا نجهل دائما أين توجد المرآة. فيمكن أن ينظر بعضنا إلى بعض، ونحن نفكر في النظر إلى مكان آخر(الهناك). ومن هنا ضرورة الاشتغال على الذات، التي ألح عليها الخطيبي، الاشتغال عليها اكتشافا للذات وهي متمازجة بالأغيار، وكيف أن الغير لصيق بالذات، ملازم لها. فهذا اشتغال صعب لكنه ضروري (…)
إذا كان الأمريكيون ينظرون إلى المغرب، بوصفه بلدا له أكثر من خارج، كما يقول الخطيبي، فإني أطرح السؤال الآتي: خارج بالنسبة لأي شيء؟ أي داخل يحلمون به؟ هل يعرفون أنفسهم؟
على هامش هذه الأسئلة، والتي أتمنى ألا تكون متنافرة فيما بينها، أود أن أحكي تجربتين عشتهما، خلال أربعة أيام قضيتها هنا في الرباط. خضت التجربة الأولى، عندما اسقللت «سيارة أجرة صغيرة» وأنا أنظر إلى ما يجري في الخارج، صدمت ملاحظا أن الناس الذين أنظر إليهم ينظرون إلى في المقابل. لقد أدهشني هذا السلوك تماما. واندهشت مرة ثانية، لما فكرت فيه مليا؛ لأنه كان عَلَيَّ أن أتهيأ جيدا في مثل هذه الوضعية: شاركت في ندوة خلال هذا الأسدوس بباريس، حيث ناقشنا مطولا نصا ل»دريدا» بعنوان: «الحيوان الذي أنا عليه» L’Animal que donc je suis، ويدور موضوعه، حول مشهد يكون فيه الكاتب بحق، متفاجئا من نظرة قطه، الذي تعود على رؤيته كل صباح، في الحمام. فمن بين الحجج التي حاجج بها دريدا، انطلاقا من هذا المشهد، هي أن الفلسفة فاتها أن تفكر، في أن الحيوانات بمكنتها أن تنظر إلى البشر، بدل أن تكون موضوعا للنظر فقط من طرفهم. كل التراتبيات التي تصنف الأحياء، تضع الإنسان في الصدارة، تفترض هذا الموقف، حسب دريدا. وقد سبق لهذا الأخير في كتابه «أطياف ماركس» أن ناقش موقف هؤلاء، الذين يريدون أن يكونا ذواتا ناظرة، من دون ان يكونوا موضوعات منظورا إليها.
وفي كل الأحوال، فقد استغربت كثيرا لما تفرغت للتفكير في هذه الحجج النظرية، وهي مألوفة لدي. ومع ذلك، فإن كل تلك القراءات الفلسفية-النقدية لم تمنع عني الدهشة، لما تبين لي أني منظور من طرف هؤلاء الذين اعتقدت أنهم ناظرون، من غير أن يكونوا منظورين (…)
تلكم بعض الأفكار التي أثارتها فِيَّ هذه التجربة الأولى في المغرب، تلك المتعلقة ب «سيارة الأجرة الصغيرة». أما التجربة الثانية، فهي أقل «فرجوية» من سابقتها. ولست متأكدا إن كان الأمر خاصا بالمغرب، أو يشمل كل شمال إفريقيا. نظرا لأننا، حينما نلتقي، لا نكتفي بالمصافحة بالأيدي، بل نتعداها إلى لمس جهة القلب. أَثَّرَ فِيَّ هذا السلوك تأثيرا كبيرا متصاديا مع جملة بالفرنسية، طالما استعملها دريدا، وبخاصة في خطابه الشفوي. وهذه الجملة هي: de tout cœur»من كل القلب».
أتيحت لي فرصة التفكير في مسألة التحية في مناسبات مختلفة، مثلا ارتباطا بنقاش في نهاية كتاب «المارقون» Voyous لدريدا (…)، وارتباطا أيضا بص ممتاز ل»أفيتال رونيل» Avital Ronell يتناول هذا الموضوع. آداب التحية (…) يتبدى لي أن تينك التجربتين اللتين عشتهما هنا- أن تكون في موقف تفاجئك فيه نظرة الغير الآتية من الخارج، وأن تتأثر نفسك بحركة «اليد على القلب»- إن لم تكونا وجهين لنفس الوضعية: وضعية هذا الأمريكي مكرها على تقديم تفسير مرفق بهذه الفرصة التي للجوانية الفردية.