تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه صمويل فيبر :
n n عبد الكبير الخطيبي: أنا شخصيا زرت أمريكا لأول في 1971. كنت مدعوا إلى ندوة في السوسيولوجيا ب»بيتسبرغ». وعند وصولي إلى مطار كينيدي، كان علي الانتقال إلى مطار آخر، عبر طائرة مروحية، حتى أنزل بهذه المدينة. كان الطقس جميلا، حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر، وأنا على متن الطائرة المروحية، تتراءى لي نيويورك مثل منظر متحرك لا ينقطع. هذا أتذكره جيدا، قلت لنفسي: كان علي أن حمل كاميرا لالتقاط صور لهذه الحركة. هذا كان أول انطباع لي، نظرة سينمائية.
علي أن أواصل الحكاية. ليس الأمر طرفة من الطرائف، لكنه إلقاء نظرة على الوجه الأسطوري لمدينة عالمية. لما وصلت إلى الفندق بمدينة «بيتسبرغ»، وبعدما وضعت حقيبتي في الغرفة، نزلت إلى البهو، تغمره حركة كثيفة، جيئة وذهاب لا ينقطعان، وبخاصة حركة الشيوخ والعجائز.فيالمفجاة ! لما علمت أن الأمر يتعلق باجتماع سنوي لأصحاب الكلاب القلطية caniches لولاية»بنسيلفانيا» ! ثم قصدت السيدة بائعة الجرائد في الكشك متوجها إليها بهذه العبارة: « Do you have french newspapers ? « فإذا بها تقهقه ضحا. استأت هذا الموقف. ففي الواقع، فنطقي السيئ باللأنجلو-أمريكية جعلها تسمع:» fresh» بدل « french «. فرغبتي في الاثنولوجيا المحمولة لدراسة أعراف طبائع البلد»، كان مثارا للضحك لدى هذه المرأة. فلم أملك إلا أن أضحك بدوري.
وعند رجوعي إلى نيويورك، تجولت فيها طيلة النهار، وعند المساء ذهبت للاستماع لموسيقى الجاز، التي تستهويني إلى اليوم. إن إيقاع الجاز يحفزني إلى اكتشاف فضاء أخر للمدينة، المدينة القاتمة. وفيما بعد، عمدت إلى عقلنة حبي للجاز، الجاز الممتع والمبدع. هذا الفن ذو الجذور الشعبية، أضحى عالميا. فمما لا شك فيه، انه الموسيقى الشعبية الوحيدة التي عرفت هذا الامتداد في أقل من قرن. وقد سبق لي أن كتبت عدة نصوص، وروايات ودراسات، على الطريقة الارتجالية لموسيقى الجاز؛ فيكفي إيجاد موضوع وقع عليه اختياري، وأترك اللغة تأخذ إيقاعها، وتعمل على تنويع مناجاتي الداخلية. الارتجال في الجاز والكتابة يفسح الطريق لاهتزازات الجسد القريبة، والاحساسات بالحاضر والتلقائية، يا للعجب! وفي الوقت ذاته، فإن هذه الموسيقي هي انفتاح لا محدود على الآخر، وعلى التقاليد الثقافية المختلفة. هي فن من التمازج والملتقيات المتقاطعة.
عاش «راندي ويستن»، مغني الجاز عازف البيانو الكبير، بطنجة لمدة سنوات طويلة. فتح ملهى ليليا للجاز. كان ولده وابنته يرافقانه. إذا، فهو عبار، إنساني حقيقي. إذ أنه يذهب إلى ملاقاة الآخر عبر الموسيقى. استمعت إليه في غناء فردي أو رفقة مجموعة كناوة المغربية بآلات الكنبري، و»القراقب» والطبول الكبيرة. كما شاهدته مرة ثانية في مهرجان الرباط. طلبت منه أن ينشئ ملهى ليليا بالرباط، على غرار مثيله بتونس. ثم صادفته لاحقا، خلال المعرض الدولي لمدينة إشبيلية، في 1992. وفيما بعد، تجولت برفقة أصدقاء لي، من بينهم «خوان غويتيسولو»، في زيارة للأروقة، وأمام رواق سويسرا، طالعتنا هذه العبارة المتحركة من أعلى إلى أسفل، على اللوحة الافتتاحية الضخمة: Je pense, donc je suisse. التقطت صورة للذكرى كي أضحك لاحقا.
كما أن هناك فنانين عاشوا في طنجة منهم: «بريو جيسين»، و»بول بولز» الشهير. هو نفسه كان ظاهرة أدبية. أطلق حركية مكثفة بين العديد من الفنانين الأمريكيين الذين كانوا في زيارة إلى المغرب. كان هذا الكاتب، وبخاصة بوصفه قصاصا وملحنا لموسيقى السينما، ناسخ أصدقائه الصغار الأميين. ينقل منهم إلى اللغة الإنجليزية السائدة في أمريكا، ما حكوه في «سيرتهم الذاتية». ياله من نقل غريب من اللغة الشفوية العربية إلى الكتابة الأنجلو-أمريكية ! لا وجود ل»نص أصلي»، فليس ثمة سوى الترجمة. من المؤلف؟ ماذا يقصد بذلك التوقيع بين الناسخ وظله؟
نعرف جميعا، أن «أورسن ويلز» الذي كان يشتغل كثيرا بإسبانيا، صور فيلم «عطيل» بمدينتي الصويرة والجديدة. غير اننا لا نعرف كثيرا، أن منتجه الأمريكي تخلى عنه، مجردا من المال. يقال إنه لم يكن ليتمم فيلمه لولا بعض المتبرعين المغاربة. هل هذا صحيح؟ لست أدري. ومهما يكن من أمر، فإنه استطاع أن يعرض فيلمه بمهرجان «كان» لسنة 1952 باسم المغرب. إنه الفيلم «المغربي» الأول، الذي أخرجه «أورسن ويلز» .