من حوارات الخطيبي 14 لن أمل من الرجوع إلى موسيقى الجاز

تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه صمويل فيبر :

 

تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه صمويل فيبر :

 

عبد الكبير الخطيبي طالما استهوتني أمريكا الشمالية حالما بها، قليلا ما مثل «غريب محترف»، عاشقا للفضاءات الرحبة. ففي نيويورك بدأت في اكتشافه تلك الفضاءات. لِمَ هذا الإحساس بالحرية، مثلما تتطاير ندف الثلج في الهواء. ومع مرور الوقت، أثناء إقامتي بهذه المدينة، لنقل، خلال عشرة أيام، خامرني إحساس غريب أني «نيويوركي»، تدفعني أمنية من التناسخ. وهذا لا يعني أني فقدت انتمائي، أحسست فقط أني آخر غير ذاتي، بطريقة حالمة. علي أن أتحدث بالأحرى عن «السيولة الهوياتية» بدل التناسخ.
ذهبت إلى «نورث ويسترن» في سنة 2007، بدعوة من الجامعة لمدة ثلاثة أسابيع. وكانت إقامتي قريبة من نهر «ميشيغان»، والرياح هوجاء. اندهشت من هذه الثورات المتتالية التي أنتشي بها. في أحد أيام الأحد صباحا، دخلت إلى كنيسة للاستماع إلىPurcell «بورسيل»، وليس لأداء الصلاة. للاستماع، ولرؤية كيف يرتب حفل للقداس الإلهي. تهيأ الجميع لتناول جبز القربان المقدس، إلا أنا. وعند نهاية القداس، وأنا أوشك على الخروج طلب مني الملصق المثبت أمام باب الخروج أن أبقى، ظننت أن في هذا دعوة إلى تذوق شيء ما. رغبت عن دعوته بلطف وانطلقت نحو ثورات الرياح(…)
عندما أزور أمريكا لإلقاء بعض المحاضرات في الجامعات، تثيرني سلاسة العلاقة بين الأساتذة والطلبة. سلاسة على مستوى التفاوض حول مشاريع البحث والتعليم وتدبيرها. العقود واضحة، مشرفة مع كثير من الدقة. هذه تظل تجربتي بوصفي زائرا أجنبيا.
ثمة حضارة أمريكية نشيطة، فيها يخاطر الناس، ويبدعون في الحرية. فإلى جانب الأفلام التجارية، هناك أفلام المؤلف. فأي أحد يقدم لك نفسه معلنا: I am artiste. كنت طلبت من أصدقائي، قبل شهر من زياراتي لمدينة نيويورك، أن يحجزوا لي تذكرة الدخول إلى حفل كبير، من فقراته مثلا: الرقص، أو الرقص النقري، الجاز، الغناء، الفن الاستعراضي… فهذا جزء من حضارة سعيدة في بلدها. وفي الوقت ذاته، يتبدى أن تسابقا إلى الأمام، في الزمن المعيش لهذا المجتمع المركب. من أجل مستقبل في درجاته القصوى.
pp صمويل فيبر: يوجد في اللغة الأنجلو-أمريكية، تعبيران لا أظنه متوفرا في لغات أخر، «الحد الوحيد، هو السماء». أعتقد أن هذا يكشف عن جانب معقد من الثقافة الأمريكية، يدمج، في الواقع، تنوعا (…) فكرة «السماء» لا تفيد فقط الفراغ، والصحراء، وأيضا بنحو أقل ما يدعوه دريدا ب»الصحراء في الصحراء» le désert dans le désert، وإنما بلد الفرص اللامحدودة. لكن الفرص هي لامحدودة لأن «السماء» قريبة من الفضاء الإلهي(…) غير أن نفس هذه السماء بلا حد إلا حدها هي، يمكن أن تكون مدخلا مشرعا على كل المخاطر، أو ببساطة على الفراغ. هذا التمازج بين التفاؤل والتشاؤم، والهمة والسخرية، والأمل والشعور بالذنب، يسم التجربة والحساسية «الأمريكيتين»، إذا توفرت؛ لأننا إن ننظرْ عن قرب، نَرَ تنوعا من الحساسيات، تناسب تنوعا من التقاليد، والجماعات، والطبقات. وعلى هذا النحو فإن هذا التراث الموسيقي الذي أسهب الخطيبي في التعريف به، موسيقى الجاز المرتبطة بموسيقى «البلوز»، وبالتجربة الأفرو-أمريكية، لا يمكن تحديدها انطلاقا من مجموعة واحدة، أو إثنية واحدة، ولا نسبتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية بشكل عام. فنجد مثلا، ان السياسة الثقافية لليبرالية الأمريكية، ضيقت كثيرا على موسيقيي الجاز، مثل غيرهم من الفنانين فلا يحققون وفرة في المبيعات في إطار هذه السياسة الثقافية، مما اضطرهم إلى الهجرة من أجل البقاء، بمعنى الاستمرار في ممارسة فنهم. (…)
n n عبد الكبير الخطيبي:يالغرابة هذه العبارة ! The sky the limit. في سنة 1991، صدرت لي رواية «صيف في ستوكهولم» استعملت فيها هذا القول الماثور، باعتباره عنصرا سرديا. إليكم مقطعا يقول فيه السارد: « ثارت الرياح من جديد، وهي توجه رؤيتي إلى أعالي المدينة. توقف نظري أمام هذا الإشهار: السماء هي حد. واصلت تجوالي، شيئا ما، على الطريقة السويدية، باتباع الطريق الذي يسلكه المارة من دون لفت انتباه إلى تسكعي.
على هذا النحو انقدت، منجذبا لرشاقتهم العضلية أكثر من رهافة إحساسسهم. وأنا أكتشف ستوكهولم كنت أفك رموز درس من الأشياء عن ظهر قلب. وأنا أنتقل من مدينة إلى أخرى، فإن مسار حياتي ممتهن لقياس المسافات. تعلمت أيضا كيف أكتشف سر الحدود، والمسالك، والمخارج، والطرق المسدودة: سر بدئي تلقيني يتزود به المسافر. هذا السر يوسع ذاكرتنا ويقوي صبرنا على العيش. أحيانا أقول لنفسي: نحن جميعا غرباء حتى أقاصي العالم؛ لكن لعل المصالحة مع الموت هي الغرابة التي لا تضاهى».
لن أمل من الرجوع إلى موسيقى الجاز، إنها انهمامي، ولها يخفق قلبي. في 1999، شاركت في ندوة بجامعة نيويورك، حول أعمالي. وقد أشرفت عليها Lucy MeNeece Stone أستاذة، وناقدة وامرأة بصفات مميزة. كما عقبت الندوة سهرة خاصة من الجاز، مع Billy Lester على البيانو، و Sean Smith على آلة الكونترباس. وفي الأخير، دعوتهما للمشاركة في مهرجان الرباط في دورته المقبلة.
من المفروض مضاعفة الجهود، انطلاقا من أعمال حقيقية. ثمة مغاربة يكتبون بالإنجليزية لكن ما يقومون به يظل مشتتا (…) علينا أن نذكر أنتربولوجيا فذاHart David Montgomery. يعيش في إقليم الأندلس، وكان يحضر كل مرتين في الشهر للتدريس بمعهد السوسيولوجيا، الذي كنت أديره ما بين 1966-1970. وهو باحث متخصص في منطقة الريف وظاهرة الثأر. وبنفس القدر من الأهمية، نجد أحد الأنتبولوجيين الأمريكان في القرن العشرين Clifford Geetz. أقام رفقة فريقه بمدينة صفرو سنين طويلة. ينبغي قراءة كتابه الذي يقارن فيه بين الإسلام في أندونيسيا والمغرب.
pp صمويل فيبر: (…) أعتقد أن اندهاشي وصدمتي وذهولي، يبين أنني هنا في الرباطـ ،كانت لي تجربة أخرى للنظر ول[فكرة] السيارة التي كانت عندي هناك، سواء في باريس، أو شيكاغو، أو برلين. فبينما نكون داخل السيارة في المدن، من النادر جدا، أن ينظر الناس من الخارج، إلى من بداخل السيارات. لكن من جهة أخرى فمن المقبول تصور أن هذه الإمكانية غير مستبعدة أيضا. لأن أصحاب السيارات في أمريكا يملكون زجاجا مصبوغا غير شفاف، ليس قصد الاحتماء من أشعة الشمس فقط، بل تفاديا لنظرات الآخرين وحجبها. إذا، يتبدى أن الخوف أو النفور من أن تخترق نظرة الغير حميمية السيارة، وهذا يحصل كثيرا في أمريكا.
الملاحظة التي أبداها عبد الكبير مدعاة لتفكير رحب، فهو يحكي كيف ان تجربته بنيويورك ،كانت لها نكهة سينمائية. لكن بأي منظور؟ المنظور الذي ترسخه الأفلام باطراد لكن أيضا في التحقيقات التلفزية (…) أعرف على الأقل فيلما أمريكيا يصل بين هذين المنظورين، بين ما أسميه «المنظور بالمروحية» la prespective hélico و»المنظور من تحت» la prespective d’en bas، وهو أحد الأفلام الأولى ل»كوبولا»، وعنوانه ببساطة «المحادثة». يبدأ الفيلم -الجينيريك- في لقطة يظهر فيها أشخاص يتناولون الغذاء، أثناء الظهيرة، بمنتزه في وسط نيويورك. نشاهد رجلا وامرأة شابين يتحدثان، وهما يتجولان. وشيئا فشيئا، تبعد الكاميرا هذا المشهد، حتى أن يصير هذا الثنائي متناهي الصغر. نسمع ضجيجا كثيفا غريبا، ليس أصواتا لكن يُخَيَّلُ إلينا أنه محادثة. وأخيرا نرى Gene Hackmann، في الطابق الثلاثين، من إحدى العمارات الشاهقة، وهو في طور التجسس على الشابين، وتسجيل محادثتهما بواسطة آلات متطورة، أدوات للمراقبة. وتجري بعد ذلك أحداث الفليم كلها حول هذين الشابين، ومحادثتهما، وفيما يتحاوران فيه ولماذا. وشيئا فشيئا يستغرق المُحَقِّقُ Hackmann في موضوعه استغراقا. مثل محاورة أفلاطون، كريتياس، فإن هذا الفيلم لم يضع له نقطة نهاية، فهو لم يشف غليلنا من حيث طرح الحل والخاتمة. فخاصيته الشذرية، هي بالتحديد، ما يدعونا إلى التفكير في وضعيتنا كمتفرجين في السينما، في نفس وضعية المحقق، المكلف بالكشف عن أسرار هذين الشابين، وهو يقوم بذلك لأنه من صميم عمله. فهو يشعر أيضا أنه بريء من كل شيء مما نحن فيه في السينما أو أمام التلفزيون.
n n عبد الكبيرالخطيبي: أنا الآن أتخيل الكاميرا الخفية لأفلاطون من أجل تصوير نهاية «كريتياس». يظهر الاله «زيوس» ويشرع في الكلام. ثم يخيم الصمت المطلق. وتعلن نهاية العالم.
-صمويل فيبر: لم يفلح «كوبولا» في وضع نهاية للمشهد الأخير من فيلم «المحادثة»، لكن موزعه Walter Murch أكمل هذه المهمة: يظهر Gene Hackman وحيدا في شقته المدمرة. الذي أتى على تخريبها باحثا، من دون جدوى، عن جهاز المراقبة. إذا، نلاحظ ان الجاسوس وقد صار هدفا، لا يلوي على شيء. لم يبق له إلا يعزف على آلة الساكسفون، الكئيبة الباعثة على الحزن بامتياز.


الكاتب : إعداد وترجمة: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 07/04/2023