صيدلية الأفكار -14- القارئ الساذج

الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .

 

في كتابه العميق و الممتع “ شاعرية حلم اليقظة”la poétique de laréverie، يوضح غاستون باشلار أنماط الاستعمال الجيد و السيئ للرموز .ففي مجال العلوم الوضعية يحظر الرمز و يبعد من دون رحمة . و في مجال التحليل النفسي الكلاسيكي(مجال الحلم و العصاب) يعتبر الرمز عرضا من الأعراض ليس إلا . في المجالين معا يكون حضور الرمز مشبوها و مطاردا . لكن حسب باشلار هنالك مجال ثالث يخص الإنسانية الكامنة فينا : إنه مجال الكلام الإنساني ، مجال اللغة المتولدة و المتدفقة فينا ككائنات إنسانية ، لسانا و فكرا في الآن ذاته . في هته اللغة الشعرية تحصل المناظرة الإنسانية بين ما هو موضوعي و واضح و بين ما هو بيولوجي غرائزي مظلم . إن لغة القصيدة ، حسب باشلار ، تكشف « اللاأنا le nom-moi الخاص بي و ليس أناي . و بذلك تكون نفس اللغة بعيدة أن تكون غارقة في الموضوعية الفارغة ، أو الذاتية اللزجة و الدبقة . يتصرف الانسان تجاه العالم بكيفيتين عريضتين . فلأجل تحويل العالم يتصرف الإنسان عبر العلم الموضوعي ، و في الأمر احتقارهادئ للطبيعة، أو يتصرف عبر جعل الشعر ذاتيا ، و في الأمر إعادة بناء للعالم ،حسب نموذج السعادة الإنسانية المأمولة ، في صيغة أساطير و قصائد و ديانات .
على عكس علم الاجتماع و التحليل النفسي اللذان وجها أعين بحوثهما نحو اللاوعي ، إما عبر الكشف عن الأعراض الحلمية ، أو عبر البحث في الأساطير، سيوجه باشلار بحثه نحو « ما فوق –الوعي الشعري « الذي ينكشف في الكلمات و الاستعارات، و كذا نحو نظام التعبير الأكثر غموضا ، و الأقل بلاغة من الشعر ، و الذي يبدعه حلم اليقظة ، حلم يقظة كلمات قارئ القصيدة . تفرض الظاهراتية (الفينومينولوجيا ) حسب باشلار ذاتها في هذا السياق . ففي مجال استكشاف عالم الخيال و التواصل الرمزي ، تسمح بقوة بإرساء نظرة جديدة تعيد فحص الصور المحبوبة بكل أمانة . سبب ذلك راجع إلى كون المنهج الفينومينولوجي يعتمد على إبراز فضيلة الصور و أصلها و كذا الإمساك بجوهر أصالتها ، و من ثم الإفادة من الإنتاجية النفسية العظيمة التي هي إنتاجية الخيال . يعلق صاحب كتاب « البنيات الأنثروبولوجية للمتخيل « ، جيلبير دوران قائلا بان ظاهرية الخيال عند غاستون باشلار هي « مدرسة السذاجة « التي تسمح بقطاف الرمز بلحمه و عظمه من وراء كل عقبات التعهد الذاتي للشاعر أو للقارئ لأننا « لا نقرأ الشعر و نحن نفكر بشيء « آخر .منذ ذاك ظل القارئ الساذج ، هذا الظاهراتي دون علمه ، مكان الصدى الشعري . مكان هو حوض خصب لأن الصورة بذار و هي تجعلنا نلد ما نراه .
يوجد الحلم تحت الوعي ، لكن حلم اليقظة المبدع يوجد فوق الوعي ، و الشعور الذي يطابقه يكون مبدعا ، بحكم حيويته الخيالية . إن الشعور الحالم هو حلم يقظة منظوم شعرا . و هو عناق صور، لذا تجد القصيدة ، حسب باشلار مسكنها في صدر القارئ الساذج .


الكاتب : نورالدين الزاهي

  

بتاريخ : 07/04/2023