إدموند دوتي: أنثربولوجيا الإسلام

 

يُشيد رولان لوبيل الباحث الفرنسي في تاريخ الثقافة الكولونيالية بإدموند دوتي. الأمر ليس مصادفة، بل يتعلق الأمر بمؤسس لما سيسمى في ما بعد بمبحث “أنثربولوجيا القداسة” في المنطقة المغاربية. دوتي في الحقيقة سليل حلقة فكرية كانت قد بدأت مع اسمين لامعين في دُرى البحث الأنثربولوجي، يتعلق الأمر، في المقام الأول بهنري باسي Henri Bassetمدير المدرسة العليا للآداب في الجزائر، وفي المقام الثاني بأوغست مولييراس Auguste Moulieras صاحب كتاب “المغرب المجهول”. إلى هذين الاسمين تنتسب حلقة البحث في المقدس المغاربي من جهة، ومن خلالهما حدث الانتقال من طرف المدرسة السوسيولوجية الجزائرية نحو تناول مواضيع في المغرب.
توقف جاك بيرك Jacques Berque في كتابه “125 سنة من السوسيولوجيا الكولونيالية” عند إسهامات ادموند دوتي، فهو حسب صاحب كتاب سكساوة “…مُلاحظ نافذ، ورحالة يقظ ومتفطن لتصحيح المعرفة عبر الخيال، وجدت فيه الإثنولوجيا الإنجليزية والسوسيولوجيا الفرنسية مُطبقا منظما…”.
من جهته خصص بول باسكون في كتابه “دراسات قروية” حيزا مهما للحديث عن التقرير السري الذي أنجزه إدموند دوتي عن الوضع السياسي في الحوز في فاتح يناير 1907. تضمن التقرير وصفا مجهريا لنسيج المجموعات الدينية بمجال حوز مراكش، وتشريحا لميكانيزمات السلطة وبنيات المجتمع المحلي. وفي ما بعد، سيلبس الأنثربولوجي المغربي حسن رشيق دوتي عباءة الباحث التطوري الذي يضع المقدس في صدارة التحليل الأنثربولوجي، يمزج بين قُبعة الباحث وقُبعة الموظف الاستعماري.
كتاب “في مراكش” في الأصل توثيق لمسار رحلة قطعها إدموند دوتي متنقلا من الدار البيضاء نحو أبواب مراكش، مرورا بقبائل الشاوية ودكالة والرحامنة. يستجمع الكتاب خلاصة ثلاث رحلات استكشافية، متقطعة في الزمان والمكان تطلع من خلالها دوتي إلى القيام بمسح مونوغرافي دقيق لقبائل الأطلس الكبير. يصادف القارئ من داخل الكتاب متابعة إثنوغرافية كثيفة حول طقوس الزواج وأنماط حلاقة الشعر والأكل واللباس، وتوثيق للأعياد الدينية وفولكور المغاربة ووصف لأحوال الناس، وتضاريس المنطقة، مع التوقف على تفكيك العادات والتقاليد والأعراف الثقافية… برؤية تسمها رؤية الاندهاش التي تنهل من النزعة الوضعية التطورية مثلما نجدها في مدونات مارسيل موس وجيمس فرايزر عن المجتمعات البدائية. ويمكن أن يرتقي التحليل إلى مستوى أعلى، من خلال تحليل البنية الاقتصادية للمغرب قبل الاستعمار.
يقف دوتي عند ملاحظة جوهرية، كان قد أبداها شارل دوفوكو في ما سبق، حول مفارقة النظام الاقتصادي المغربي، الذي يرتكز على اقتصاد الكفاف والندرة، بينما علاقاته الاجتماعية ترتكز على قيم البذخ والترف والثراء…
في مرحلة التركيب، سينتقل إدموند دوتي من توثيق الرحلات الإثنوغرافية إلى تقديم قراءة تركيبية عن المعتقدات المغاربية، سينجز بحثا أنثربولوجيا غاية في النباهة حول “السحر والدين في إفريقيا الشمالية”، أول محاولة علمية جريئة لفهم الظواهر الدينية والثقافية التي تسكن روح المغاربة، وبذلك، سيدشن حقلا جديدا في أنثربولوجيا الإسلام في الفضاء المغاربي، وإن كان يعترف ضمنيا في مدخل كتابه، بأن الاستنتاجات التي توصل إليها قد تبدو غير متماسكة وهشة، لكنها تفسر عمق الظاهرة الدينية.
تتلخص الأطروحة التي دافع عنها إدموند دوتي في كتاب “السحر والدين في إفريقيا الشمالية”، في كون السحر إبداعا جماعيا وجمعيا، لأنه أصل الدين؛ وأن الإسلام فتح الباب أمام المعتقدات السحرية وذلك عبر الاعتقاد بالجن، يتغير المعتقد ويستمر الطقس في الوجود، فالسحر والدين يرتبطان بعلاقة متينة ترتبط بغموض المقدس والتباسه، فالإسلام حسب دوتي لم يعمل سوى على تعويض الرموز السحرية بالرموز الدينية.
يستند إدموند دوتي في استنتاجاته حول علاقة الدين بالسحر بملاحظاته الأنثربولوجية التي جمعها من خلال رحلتيه حول طقوس العين العائنة، طقوس الخصوبة، طقوس البحث عن الكنوز، طقوس دفع الحسد، طقوس جلب الحظ… وهذه ملاحظات تتقاطع مع أطروحة إميل دوركهايم حول الطوطمية، خاصة من حيث طقس التضحية والأضحية، فعلاقة الساحر والعالم الإلهي تتطلب أضحية/ حيوانا يكون بمثابة وسيلة للتوسط والتعبد.
ينطلق دوتي في “كتابه الصلحاء: مدونات عن الاسلام المغاربي في القرن التاسع عشر”، الذي هو عبارة عن مساهمة أنثروبولوجية لفهم بنية المتخيل الجمعي المغربي، من فكرة أساسية، مفادها غياب الوسيط بين الله والمؤمن كان حافزا على ظهور التبرك بالأولياء والصالحين، الذين لعبوا أدوارا دينية واجتماعية وثقافية في الهيكل الاجتماعي، ويميز بين صلحاء الحواضر، وصلحاء البوادي، وصلحاء بالفطرة، وصلحاء الزهد والتقشف، وصلحاء الحمق والجنون. ويتوقف كثيرا عند شخصية عبد السلام بن مشيش كواحد من أكبر الصلحاء الذين عرفهم التاريخ المغربي.
إجمالا، حاولت كتابات إدموند دوتي أن تُعرف بالمغرب من منظور استكشافي استطلاعي، وإن اعتبره البعض عملا استخباراتيا صرفا، فإنه لا يخلو مع ذلك من قيمة معرفية في تقصي دواخل المجتمع المغربي قبل الاستعمار، وإن عاب عليه البعض الآخر، أنه يدخل ضمن الإثنوغرافيا المقارنة لكل من لوشاتليي وموليراس، ولا يُقدم تجديدا منهجيا، فإنه يحظى بفائق القيمة والتقدير في تدشين حقل “أنثربولوجيا الإسلام المغاربي”.

مراجع:

– من بين الكتب التي خصصها ادموند دوتي لدراسة الظاهرة الدينية بالمنطقة المغاربية، نذكر، ملاحظات حول الإسلام المغاربي الصادر سنة 1900، وكتاب كومة الأحجار المقدسة وبعض الممارسات المتعلقة بها جنوب المغرب الصادر سنة 1903، وكتاب السحر والدين في افريقيا الشمالية، الصادر سنة 1909.
2 – J. Berque, Cent vingt-cinq ans de sociologie maghrébine, In le mal, E.S.C, 1965, p17.
3- نور الدين الزاهي، المدخل لعلم الاجتماع المغربي، دفاتر وجهات نظر، الطبعة الأولى، 2011، ص42.
4 – E. Doutté, Magie et Religion en Afrique du Nord, Maissonevre, 2 éme édition, Paris, 1984, p19.
5- E. Doutté, En tribu, Edition Paul Guethner, Paris, 1914, et aussi, Marrakech, Edition du comite du Maroc, Paris, 1905.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 07/04/2023