من حوارات الخطيبي -15- الارتياب يخامرني في علاقتي بالمدرسة

تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه صمويل فيبر :

pp صمويل فيبر: شكرا جزيلا. أريد في البداية، أن أبادر بالشكر لكل هؤلاء الذين أتاحوا لي إمكانية التواجد بينكم اليوم. فهذه أول مرة أزور فيها المغرب، وأنا سعيد جدا بهذه الفرصة، على تبادل الأفكار مع عبد الكبير الخطيبي، والأستاذ بلغازي، ومع كل الذين حضروا لهذه الجلسات. كما أوجه الشكر الخاص لعبد الكبير على إطلاق فكرة هذه السلسلة من الحوارات، كما أعبر عن امتناني للجنة Fulbright وCentre for Cross Cultural Learning على دعمهما.
اسمحوا لي الآن أن أفتتح بعرض أوطوبيوغرافي مقتضب. فأنا ولدت وقضيت شبابي، ب»مانهاتان»، في قلب مدينة نيويورك. وإن كنت أحرص على التشديد على هذا الحدث، فلأن وضعية نيويورك من داخل الولايات المتحدة الأمريكية أشد تفردا؛ وبالتالي يصعب علي الحديث عنها وكأن الولايات المتحدة الأمريكية، أمريكا والأمريكيون ساكنة أو ثقافة متجانسة-ليس فقط لأن البلاد كبيرة، لكن لأن تجربتي بنيويورك كانت شديدة الخصوصية، ولا تمثل الولايات الامريكية إطلاقا. كانت «مانهاتان» خلال طفولتي وشبابي حاضنا للتعدد الثقافي؛ فكنا نسمع في شارعها كثيرا من اللغات الأجنبية: أولا الإسبانية، لأن الكثير من مواطني بورتو ريكو يسكنون في هذا الحي، وكثيرا من اللغات و»اللهجات» الأخرى. كان للساكنة ذات البشرة السوداء أهمية، كما كانت لتلك القادمة من أوروبا. أشخاص فروا من اضطهاد النازية، نقلوا معهم كل اللغات الأوروبية. فكنا نجد في الأكشاك جرائد مكتوبة، بكل هذه اللغات، الأمر الذي دفعني مبكرا لخوض تجربة يفتقر إليها كثير من الأمريكيين: أي ثقافة متعددة اللغات. وأعتقد أن ذلك، كان له دخل في علاقتي باللغة، وبالمجتمع الأمريكي كذلك. لما غادرت نيويورك، للذهاب إلى الجامعة، كان عمري ستة عشر عاما، لكني بقيت متأثرا بهذا الحمام اللغوي.
وانتقلت فيما بعد، إلى الجانب الآخر من الأطلنطي، وابتعدت عن كثير من زوايا النظر في تجاربي الأمريكية لفترة الشباب. لكن، وكما كتب عبد الكبير في هذا الكتاب الرائع الصادر مؤخرا، «الناسخ وظله»، نظل مطبوعين بسنوات الطفولة، والأمكنة التي قضيناها فيها. أحتفظ من هذه الفترة خاصة، بأمرين. أولا فمعنى عدم التجانس والتنوع الذي يأخذه «مجتمع» هو من الأهمية بمكان،
ثم، إن المؤسسات المفترضة توجب انسجاما وتماسكا معينين- بدءا من المدرسة- يصلح نعتها بالارتياب والتحوط الكبيرين.
هذان الاتجاهان أو الترتيبان هما على قدر كبير، من الغرابة، فوالدي كان يشتغل مدرسا في ثانوية ب»هارليم». أما أنا فشققت مساري في الجامعة. كانت المدرسة بالنسبة لأبي طريقا إلى الإدماج في المجتمع الأمريكي، واللغة الإنجليزية. فقد ولد في بولونيا، ووصل إلى نيويورك وعمره أربع سنوات. ولغته الأم (الأصلية) هي البديشية، وأما الانجليزية فتعلمها في المدرسة. أما أنا فتعلمت في المدرسة، أني كنت قاصرا على اكتساب لغة أجنبية- ويتعلق الأمر في هذه الحالة، باللغة الفرنسية. ظل الارتياب يخامرني في علاقتي بالمدرسة أكثر من أبي، رغم أن مساري الدراسي كله جرى بالجامعة.


الكاتب : إعداد وترجمة: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 08/04/2023