كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.
كان مشهد الحركة التي قادها الحسن الأول في 1882 مثيرا للغاية، وإِنْ كان هدفها، حين وصولها إلى حدود واد سوس هو أن تترك صدى معنويا أكثر من خوض معارك. أما الخضوع فقد كان نتيجة للعديد من المفاوضات، وما سماه السلطان “السياسة”، (بمفهوم ساس يسوس الخيل أي تربيتها وترويضها)، كما كان الوسطاء عديدين سواء من شخصيات الصف الأول أو مجرد جنود الظل، وكان مولاي العربي الازودي، الذي سيرد اسمه من بعد بصفته الوظيفية، واحدا من بين آخرين…
ففي أقل من أسبوع، أي ما بين 8 و17 يوليوز 1882، توصل (الطالب) بست مراسلات، في المراسلة الأولى، طلب منه السلطان، الذي كان قد أقام معسكره على حدود سوس الرمزية ، التوسط لدى قبائل المعذر للالتحاق بالحركة، من جهة وادي «والغاس».
وفي 11 يوليوز توصل الطالب برسالتين الأولى من أحد وجهاء القصر محمد بن المكي الجامعي، يطلب فيها بركته بواسطة حجاب ويتحدث عن مبعوثين اثنين يود دخولهما على السلطان، أما الثانية، التي تم تسليمها من طرف أحد أعوان المخزن فتخبره بأن رسالته قد تم التوصل بها وتم نقلها إلى السلطان وأن رد هذا الأخير يوجد ضمن المرفقات.. وهي رسالة طويلة جدا، ومتقنة البناء على طريقة رسالة رسمية، وفيها يصف السلطان الطالب القروي بالصديق (محب جنابنا) كما يفعل بالشخصيات المرموقة التي تخدمه بعد انتقاء.
تتكون الرسالة من جزئين يتضمن الأول عناصر الخطاب المرسل والثاني يتضمن الجواب عليه نقطة نقطة. يبدأ السلطان بالإشارة إلى أن (الطالْبْ) قد أخبر السيدين أحمد ابلاغ**** وموسى بن بقاش بتعيينهما كقائدين، ونقل قرار «الأمان» للقبيلة وبركته، وشهد على فرحتهم بها وخضوعهم تبعا لتعاليم القرآن والسنة.. ويضيف السلطان بأنه صار يعرف بأن الشيخين يستعدان للالتحاق بموكبهم عند تيزنيت ويختم هذا الموجز، بالقضية الأكثر أهمية وتخص موضوعه الأكثر إشاكلية، ألا وهو رئيس مدرسة «إيليغ» الحسين، ويسجل السلطان أنه يعبر عن رضاه بكون الطالب قد أخبر «المرابط» كتابيا يطلعه على حسن نيته ويدعوه إلى «الالتزام بالجماعة وعدم الخروج منها»، ويسجل كذلك بأن حسين إيليغ قد قال بأنه «لا ملجأ لديه إلا الطالب» وأن هذا الأخير يدعو له برضى السلطان وعطفه ليمحو بذلك ما كان تناهى إليه من أخبار سيئة بخصوصه.
وفي الجزء الثاني من الرسالة، يرد السلطان على كل نقطة بدون احترام ترتيبها الوارد في الجزء الأول، ويبدأ بالقضية المتعلقة بزعيم إيليغ، وفي هذا يقول بأنه “قبل ضم هذا الأخير المنشق رفقة الطالب هو ومن معه”. يقول بعد ذلك إنه بارك الشيخين اللذين تم إقرارهما وتعيينهما قائدين لقبيلتيهما، قبل أن يعود مجددا إلى حسين ايليغ، والذي خصص له فقرات طويلة مليئة بالمضمرات يبرز فيها عدم قبوله بالحيطة التي عبر عنها هذا الأخير إزاءه، ويقوم السلطان بتزكية الضمانات التي أمدها للطالب الحسين، وأعاد التذكير بالرابط الذي يربط هذا الأخير بالولي سيدي احمد الموسى ..جده. وهذا التلميح إلى ولي سوس يتيح للسلطان بقبول ما يعتبره «زيغان» ولد من أولاد ولي كبير. وقد كتب السلطان بأن الحسين «من سلالة ناس خيرين وأن زاويتهم، من أفضل الزوايا المغربية (كذا) حتى أنه قال بأن ضريح سلفه حج صغير« (صفة مغربي هنا لها دلالة من حيث الوعي بمغربية الديانة أو تعبيرها المغربي الخاص..).
وبدون إشارة واضحة للمبارزات الثنائية بينهما عندما كان «خليفة»، فإنه لم يتردد في التذكير بأن الحسين خدم مصالح المخزن عن بعد. وفي الفاصل بين هذا وذاك، يلمح إلى أنه يعرف بأن هذا الأخير، الحسين «يعتريه الخوف بسبب سوء التدبير»، ويترك الغموض يخيم بالتوجه إلى الطالب بهذه العبارات «هي مسألة علمنا بها ولكن لا تحملْ هما لها، أمَّننا لله وأمَّنك من المخاوف التي غذتها مصادر أخرى»، قبل أن يسرد خطورة الأخبار التي وصلت بخصوصه، والتي من شأنها أن «تزيل الفرحة وتجعلنا نشيح عنه بوجهنا والحكم عليه بأنه عاص متمرد».