حوارات في الدين والحداثة والعلمانية 15 – محاورة بين عالِيَّ الاجتماع الأميركِيّين مارك جورجنسماير وروبرت ن. بيلا (6/5)

لم تعد للهويات الدينية جذور جغرافية أو سياسية تحميها

تحت عنوان «العلمانية والدين في عصر العولمة» جرت محاورة بين عالمين أميركيين في علم الاجتماع هما مارك جورجنسماير وهو محاضر في جامعة كاليفورنيا ومدير مركز أورفاليا للدراسات الدولية والعالمية، وروبرت بيلاّ، المحاضر أيضاً في قسم علم الاجتماع في الجامعة نفسها، وأحد أبرز علماء الاجتماع المعاصرين في الولايات المتحدة الأميركية. تركّز النقاس بين هاتين الشخصيتين العلميّتين حول ضرورة إنتاج رؤية جديدة لمفهومَيّ الدين والعلمانية في ضوء التحولات الهائلة التي أحدثتها العولمة على القيم الدينية في الغرب. كما تطرّق النقاش إلى السؤال الكبير الذي يشغل علماء الاجتماع والمفكرين اليوم، ويتعلّق بمستقبل الأديان في العالم وفي أوروبا وأميركا بصفة خاصة.

مارك جورجنسماير: يقول جهاديون آخرون أن أميركا تخفي في الحقيقة أجندة مسيحية. تؤكّد وجهة النظر هذه بأن العلمانية غير موجودة فعلاً، وبأنّ الحضارات هي دينية في الأساس، وبأنّ العلمانية في أميركا هي في الواقع علمانية مسيحية، وهذه النقطة لا تختلف كثيراً عما أثرته أنتَ أو تايلور.
روبرت بيلاّ: نعم. في الواقع هذا الأمر صحيح من الناحية التاريخية. فالعلمانية بحدّ ذاتها قد ظهرت في مكان واحد فحسب، ألا وهو الغرب. أما الإسلام فلم يُظهر أي حركة وطنية يمكن تسميتها بالعلمانية. كان يوجد علمانيون عرب وإيرانيون وغيرهم، ولكنهم تلقوا تعاليمهم في مدارس غربية، فاصطبغوا بالعلمانية من الغرب. حتى أن هناك العديد من المسلمين الورعين الذين كان يُطلق عليهم المسلمون الحداثويون الذين تقبّلوا فكرة فصل الكنيسة عن الدولة أو الدين عن الدولة. لكن هذه الفكرة نابعة من الغرب، لا من الأعراف الإسلامية. ونجد ذلك أيضاً في الهند كما في شرقي آسيا. تعتبر فكرة العلمانية ككل فكرة حديثة وغربية، لذا تجدها غريبة حين تنتقل خارج الغرب.
مارك جورجنسماير: لكن هذه النقطة لا نجدها لدى اليمين المسيحي في أميركا، على سبيل المثال، الذي يرتعب من العلمانية، والذي ينظر إلى السياسات والثقافة العلمانية كعدو للدين، ما يجعل تفكيره أقرب إلى تفكير )أبو حليمة( والجهاديين المسلمين حول العلمانية باعتبارها عدواً الدين. هل هم ببساطة مخطئون؟ أم هم على حق ولكن العلمانية في الغرب هي شكل من أشكال الدين المختلف عن دينهم، وبالتالي لا تزال تتخللها عيوب جوهرية؟
روبرت بيلاّ: إذا ما عدنا، هنا أيضاً، إلى الفكرة المقلقة حول هذا الموضوع، بأن العلمانية بصدد تقويض ديننا المسيحي، سنعود بذلك إلى الأصولية التي تعتبر اختراعاً أميركيّاً منذ العقود الأولى للقرن العشرين و…
مارك جورجنسماير: تقصد «أسس المسيحية».
روبرت بيلاّ: صحيح. كان المسيحيون الآخرون المستهدفين الرئيسيين. بما أنهم كانوا من البروتستانتيين، فتجدهم ممتعضين من غيرهم من البروتسنتاتيين من حولهم الذين تأثروا بشدّة بالأفكار العلمانية. لقد كانوا في غاية التحرّر. لم تكن الحرب في الواقع ضدّ العلمانية بحدّ ذاتها بقدر ما كانت حرباً بين جماعات تعتبر نفسها مسيحية.
مارك جورجنسماير: يبدو كما لو أنّ مفكّري عصر التنوير قد اخترعوا فكرة «العلمانية» هذه لحمايتهم من الدين المتشدّد، ولكن هذا الدين قد ظهر اليوم بوجه خاص بسبب هذه العلمانية بهدف مواجهتها.
روبرت بيلاّ: تمنيت لو أنني شهدت علمانية منظمة تهاجم الدين في هذا البلد. فبصرف النظر عن العدد القليل من المثقفين غير الناضجين، أنا لا أرى أي حركة علمانية واسعة النطاق في الولايات المتحدة الأميركية.
مارك جورجنسماير: مع ذلك، فإنّ الخوف الشديد الذي ينتاب اليمين المسيحي، أي أن يقوم العلمانيون بفرض الإجهاض و..
روبرت بيلاّ: ربما ذلك صحيح. لكنني أعتقد بأنهم أكثر غضباً تجاه المسيحيين الآخرين منهم تجاه العلمانيين. فالأشخاص المتدينون يريدون أن يكونوا هم على حق، وجميع المتدينين الآخرين على خطأ.
مارك جورجنسماير: لكن ما يثير اهتمامي هو أنّ صعود اليمين المسيحي في الولايات المتحدة سيظهر في بلد غير مناهض أساساً للدين، وتتخلّل قيمه العلمانية، كما أشرت، قيم الدين المسيحي .
روبرت بيلاّ: كما تعلم، وكما أشارت كتاباتك، غالبية هذه الأمور تتعلق بقضايا الهوية، والناس الذين يشعرون بأن هويتهم تتقوّض، من قبل المجتمع الذي يعيشون فيه، يتمسكون بأشكال من المعتقدات الدينية من أجل التأكيد على احترام ذاتهم وكرامتهم.
مارك جورجنسماير: هذا يأخذنا إلى وضع العولمة المعاصر. إنها مشكلة الجميع في عصر العولمة.
روبرت بيلاّ: هذا صحيح بالفعل.
مارك جورجنسماير: حين يتمكن الجميع من العيش أينما كان، ويطبقون هذا الأمر، سيفتقرون إلى حس أنهم يملكون مجتمعاً مبنيّاً على أسس.
روبرت بيلاّ: صحيح، أنت تتمسك إذن ببعض الهواجس، والهواجس بشكل أساسي. ما هي قصّة الحجاب؟ هل المعنى الكلي للشريعة يتحدّد حول ما إذا كانت الفتاة ترتدي الحجاب أم لا؟ ذلك شبيه بحق المسيحيين في هذا البلد الذي يركّز على مسألة الإجهاض التي لم تكن يوماً مشكلة حتى وقت قريب جدّاً.
مارك جورجنسماير: صحيح. كذلك، لم يكن الشذوذ الجنسي مشكلة بالعادة لدى المسيحيين.
روبرت بيلاّ: ولا نَنْسَ زواج المثليين الذي لم يكن في الواجهة أيضاً. ففي أوائل القرن العشرين، لم يكن التركيز على شرب الخمر فحسب..
مارك جورجنسماير: كانت والدتي عضواً في اتحاد النساء المسيحيات لمكافحة الكحول.
روبرت بيلاّ: ولكنهم كانوا أيضاً معارضين للرقص وللطلاق. تلك هي المسائل المحدّدة التي كانت تحدّد هويّتهم.ما الأمر المهم الذي سيحققه الواعظ الإنجيلي بمهاجمته الطلاق كل أسبوع في هذه الأيام، في حين أنّ نصف رعيّته مطلّقون؟ هذه الأمور متغيرة، إذ ليس لها أي أصول في العهد الجديد، إنما تحوّلت إلى مواضيع حساسة تحدد من هو الصالح ومن هو الطالح.
مارك جورجنسماير: سيصدمون حين يعلمون بأنّ الدوافع وراء تديّنهم الشديد ليس دينيّاً، وإنما، هو في الواقع اجتماعيٌّ.
روبرت بيلاّ: صحيح.
مارك جورجنسماير: هم يحاولون الحصول على هوية ما، أو مطلب ما، وعلى بعض الجذور الثقافية. قد يكونون على صواب في عصر العولمة هذا، وذلك لأنّ الدين التقليدي أو الهويات الدينية، كسائر الهويات التي أوجدتها المجتمعات، تتعرّض للهجوم. فهي هشّة ولم يعد لديها جذور جغرافية أو سياسية تحميها.
روبرت بيلاّ: لكن لسوء الحظ، معظم الجماعات الدينية المتشدّدة هذه ليست تقليدية على الإطلاق، إنما حديثة للغاية وجاهلة بالأعراف.
مارك جورجنسماير: إذن هم يتحرّكون ردّاً على خوف حديث العهد.
روبرت بيلاّ: وتركيزهم منحرف بشدّة في ما يتعلق بأي فهم أساسي للعرف الذي لا يعرفون منه إلاّ القليل. يدرّس أحد طلابي مادّة علم اجتماع الدين، وفي سبيل أن يأخذ فكرة عن طلابه الموجودين في الصف، وزّع اِستبانةً صغيرةً عليهم يتضمن بعض الأسئلة من بينها تحديد الهوية الدينية الشخصية في الخانة الصحيحة: كاثوليكي، بروتستانتي، يهودي، وغيرها، و«أخرى». فوضع عدد كبير من طلابه المسيحيين إشارة في خانة «أخرى .»
مارك جورجنسماير: ذلك مثير للاهتمام، لأنهم اعتقدوا بأنهم أقلية.
روبرت بيلاّ: لقد زال المفهوم القائل بأن المسيحيون كانوافي الماضي منقسمين يين كاثوليك وبروتستانت. لم يكن يدرون ما هي البروتستانتية في الأصل. وبالحديث عن العرف، هؤلاء الأشخاص أميّون جداً، ولا يعلمون أي شيء عنه، باستثناء بعض قضايا الهوية التي من أجلها هم مستعدون لقتال أشخاص آخرين.
مارك جورجنسماير: صحيح. ولا أعتقد أن جهلهم للعرف يشكّل مشكلة، إلاّ في حال صاروا متكبّين ومتزمّتين جدّاً في ما يتعلق بمحاولتهم المحافظة على ما يتصورونه حول هذه الفكرة الجديدة المبتكرة للعرف. هنا ندخل في إطار السياسة.
روبرت بيلاّ: ما يحدث بطبيعة الحال أنه عندما بدأ الإنجيليون باتخّاذ منحىً أكثر جدية وبالتعلّم، أصبحوا من الأساقفة البروتستانت.
مارك جورجنسماير: هذا الأمر ليس بسيّئ، أليس كذلك؟ ففي إحدى النقاط المثارة في إحدى مقالاتك، استبعدتَ قيام دين عالمي. لكن في عصر العولمة، حيث لا يمكن لهذا التعلّق الشديد بالهويات الذي نشهده لدى المجموعات الدينية المتطرفة بالتأكيد أن يكون انعكاساً للمستقبل كان الله في عوننا إذا كان هذا هو الحال سنتتجزأ جميعنا، وستكثر الحروب القبلية. ألا يوجد إمكانية قيام مجتمع مدني عالمي تتخلله قيم مشتركة ومواطنية عامة في هذا العالم؟
روبرت بيلاّ: نعم هذا بالضبط ما كنت أشير إليه في السابق عندما تحدثت عن أجندة حقوق الإنسان والبيئة. أعتقد بأنه يوجد عنصران من مجموعة مشتركة من المعتقدات التي..
مارك جورجنسماير: ليس حصراً لأميركا..
روبرت بيلاّ: لا، بالطبع لا.
مارك جورجنسماير: ولكن كجزء من عالم يتّسم بالعولمة الكونية حيث نعيش نحن.
روبرت بيلاّ: يؤكّد على ذلك ملايين الأشخاص حول العالم
مارك جورجنسماير: ألا يوجد عمق ديني في الطريقة الدوركايمية التي تستخدمها؟
روبرت بيلاّ: نعم يوجد. بالطبع يوجد.
مارك جورجنسماير: هذه المناقبية المشتركة في الميدان العام هي بحث مشترك عن المعنى.
روبرت بيلاّ: من دون شك. نحن نملك اقتصاداً عالميّاً يفتقر لجميع أنواع الرقابة أو التنظيم، ونحن بحاجة ماسة إلى مجتمع مدني عالمي من أجل ألاّ نسمح للاقتصاد بالقضاء علينا. فلدينا مؤسسات وليدة، ولدينا قانون دولي، ويوجد بعض الهيئات الدولية إنما الضعيفة جدّاً مقارنة مع القوة الخارقة للاقتصاد العالمي. في هذا الإطار، قال يورغن هابرماس وبعض المفكرين الأوروبيين الآخرين أننا بحاجة إلى بناء مجتمع مدني عالمي. إذا كنت ستعمل على بناء مجتمع مدني عالمي، أعتقد أنّ إطاراً من المعتقدات المشتركة كفيل بأن يمنحها جزءاً من الاستمرارية. وبالطبع تستطيع أن تلاحظ بأن من يتحدثون عن مجتمع مدني عالمي لديهم التزام قوي على سبيل المثال بحقوق الإنسان والديمقراطية. جميع هذه الأمور في حالة من الغليان والاضطراب. وفي الوقت الحالي، تقوم مراكز القوة الاقتصادية والسياسية المرّكزة بما تشاء مع التغاضي عن جميع هذه الأمور.


الكاتب : حاوره: فيليب نيمو

  

بتاريخ : 08/04/2023