آلى الفيلسوف اليوناني المعاصر كورنيليوس كاستورياديس على نفسه أن يظلّ طيلة حياته مفارقاً للإيديولوجيات الشائعة في القرن العشرين، ولا سيما الإيديولوجيا الماركسية الرسمية.دأب كاستورياديس على السير عكس التيار في الفكر والسياسة. إلا أنه بقي على عقيدته الانتقادية، وفي المقابل كان ناقداً جذرياً للرأسمالية الليبرالية ولديمقراطيتها الزائفة، أما موقفه من الإيديولوجيا فقد ظهر في خطابه الجذري ضد تحيزاتها سواء في الفكر الاشتراكي أو الفكر الليبرالي وكان له في كل ذلك مواقف راحت تشكّل مع الزمن تياراً نقدياً صارماً عابراً للحدود. هذا الحوار الذي أجراه معه دانيال ميرميه قبل وفاته سنة عام 1996، يتضمن رؤية إجمالية لأفكاره النقدية حيال الإيديولوجيات.
دانيال ميرميه: لماذا اختزلت عالم اليوم بكلمتين: ارتقاء التفاهة؟
كورنيليوس كاستورياديس: إنّ ما يميّز العالم المعاصر، هو بالتأكيد الأزمات، والتناقضات، والمعارضات، والانكسارات وغيرها… ولكن ما يصدمني بشكل خاصّ، هو التفاهة. لنأخذ مثلاً النزاعَ بين اليمين والیسار. حاليّاً فقد معناه. لا لأنّه لا يوجد ما يغذّي نزاعاً سياسيّاً وحتى نزاعاً سياسياً كبيراً، ولكن لأنّ هؤلاء وهؤلاء يقولون الشيء نفسَه. منذ عام 1983، مارس الاشتراكيون سياسيةً، ثمّ جاء «بالادور»، ومارس السياسة نفسها، ثمّ عاد الاشتراكيون، ومارسوا مع بيريغوفوي السياسة نفسها، عاد «بالاوير»، ومارس السياسة نفسها، فاز شيراك بالانتخابات قائلاً: «أريد أن أقوم بشيء آخر »، وقام بالسياسة نفسها.
دانيال ميرميه: بأي آليات تردّدت هذه إلى هذا العجز؟ إنها الكلمة الضخمة اليوم، العجز.
كورنيليوس كاستورياديس: إنهّم عاجزون، هذا أمر مؤكدّ. الأمر الوحيد الذي هم قادرون على القيام به هو اتبّاع التياّر، أي ممارسة السياسة فائقة الليبرالية التي تواكب الموضة. الاشتراكيوّن لم يقوموا بشيء مغاير، ولا أعتقد أنّهم كانوا سيقومون بشيء آخر لو كانوا في السلطة. هم ليسوا سياسيين Politiques برأيي، ولكنّهم محترفو سياسة Politiciens . أناسٌ يطاردون التصويت بأيّ وسيلة.
دانيال ميرميه: التسويق السياسيّ؟
كورنيليوس كاستورياديس: التسويق، نعم. ليس لديهم أيّ برنامج. هدفهم البقاء في السلطة أو العودة إلى السلطة وفي سبيل ذلك هم مستعدّون للقيام بأي شيء. نظّمَ كلينتون حملته الانتخابيّة متّبعاً استطلاعات الرأي وحسب: «إذا قلتُ هذا، هل ستجري الأمور؟ ». من خلال اتخاذ الخيار الرابح بالنسبة للرأي العام كلّ مرّة. كما كان يقول الآخر: «أنا رئيسهم، إذا أنا أكون هم». هناك صلة جوهريّة بين هذا النوع من عدم الكفاءة (الأهلية) السياسية، أي هذا المال السلبي للسياسة، وبين التفاهة في المجالات الأخرى، في الفنون والفلسفة أو في الأدب. هذه هي روح هذا العصر. الجميع يتواطأون في الاتجاه نفسه، وللنتائج نفسها، أي للتفاهة.
دانيال ميرميه: كيف تُمارَسُ السياسة؟
كورنيليوس كاستورياديس: السياسةُ مهنةٌ غريبة. حتّى هذه السياسة. لماذا؟ لأنّها تفترض مسبقاً مهارتين (قدرتين) لا يوجد بينهما أيّ علاقة جوهرية. الأولى هي أن نصل إلى السلطة. إذا لم تصل إلى السلطة، فبالإمكان أن يكون لدينا أفضل الأفكار في العالم، هذا لا يفيد بشيء، ما يؤدّي بالتالي إلى فنّ الوصول إلى السلطة. المهارة (القدرة) الثانية، هي أننّا ما إن نكون في السلطة، أن نقوم بشيءٍ ما، أي أن نحكم. كان نابليون يعرف كيف يحكم، وكليمنصو كان يعرف كيف يحكم، وتشرشل كان يعرف كيف يحكم. هؤلاء أشخاص ليسوا من اختصاصي السياسيّ، ولكنّني أصِف هنا نمطاً تاريخيّاً. ولذا لا شيءَ يضمن أنّ أحداً يعرف كيف يحكم، يعرف مع ذلك كيف يصل إلى السلطة. ما هو الوصول إلى السلطة في الملَكِيةّ المطلقة؟ كان ذلك أن يتملقّ المرء للملكِ، كان ذلك أن يحظى برضى مدام بومبادور. اليومَ في ديموقراطيتنا الزائفة، الوصول إلى السلطة يعني أن يكون المرء وراثيّاً عن بُعد، يستشعر الرأي العام….
دانيال ميرميه: أنت تقول الديموقراطية الزّائفة؟
كورنيليوس كاستورياديس: لطالما اعتقدتُ أن الديمقراطيّة المسماة تمثيليّة ليست ديمقراطيّة حقيقيّة. إنّ ممثِّليها لا يمثّلون الناس الذين ينتخبونهم سوى بشكل قليل. بدايةً، هم يمثّلون أنفسهم أو يمثّلون المصالح الخاصّة، اللوبيات [جماعات الضغط التي تمارس ضغطاً على السلطات العامّة لإنجاح مصالحها الخاصّة]، إلخ… حتّى لو لم تكن الحالة كذلك، فإن القول بأنّ أحداً ما سيمثّلني خلال خمسة أعوام بطريقة يتعذّر تغييرها، فهذا يعود إلى القول بأنّني أتخلّ عن سلطتي كشعب. سبق أن قال روسّو ذلك: يعتقد الإنجليز أنّهم أحرار لأنّهم ينتخبون ممثّليهم كلّ خمسة أعوام، إنّهم أحرار يوما واحدا فقط، هو يوم الانتخابات، هذا كلّ ما في الأمر. ليس لأنّ الانتخابات زُوِّرت، ولا لأنّنا نغشّ في صناديق الاقتراع. إنّها مزوّرة لأنّ الخيارات محدّدة سابقاً. لم يسأل أحدٌ الشعبَ على ما يريد أن يقترع. يقولون له اِقترعْ مع أو ضدّ “ماستريخت” مثلاً. ولكن مَن صنع ماستريخت؟ لسنا نحن من صنع ماستريخت. هنالك عبارة رائعة لأرسطو تقول: «من هو المواطن؟ المواطن هو شخصٌ ما يكون قادرا على أن يحَكُم وقابلاً لأن يحُكَمْ».. هنالك ستون مليون مواطن في فرنسا حاليّاً. لماذا لا يكونون على أن يحكموا؟ لأنّ كلّ الحياة السياسيّة تهدف بالتحديد إلى إنسائهم مسألة الحكم. إنّها تهدف إلى إقناعهم بأنّ هنالك خبراء يجب أن يعهدوا إليهم بأمورهم. هنالك إذاً تربية سياسيّة مضادّة. في حين كان يتوجّب على الناس على ممارسة كلّ أنواع المسؤولياّت وعلى القيام بمبادرات، فإن هؤلاء الناسُ يعتادون الاتِبّاع أو الاقتراع من أجل الخيارات التي يقدّمها لهم الآخرون. وحيث إنّ الناسَ بعيدون عن أن يكونوا مغفَّلين، النتيجة هي أنّهم يثقون بها أقلّ فأقلّ وأنّهم يصبحون مستخفّين .cyniques
دانيال ميرميه: في ما يخص المسؤوليّة الوطنية والممارسة الديموقراطية، هل تعتقد بأنّ الوضع كان أفضل في الماضي وأنه في أي مكان آخر، اليوم، هو أفضل بالمقارنة مع فرنسا؟
كورنيليوس كاستورياديس: لا، خارج فرنسا، اليوم، الوضع ليس أفضل، وربّا هو أسوأ. مرّة أخرى الانتخابات الاميركيةّ تثبت ذلك. ولكن في الماضي كان الأمر أفضل من وِجهتيَ النظر. في المجتمعات الحديثة، لنقل انطلاقاً من الثورتين الأميركيّة والفرنسيّة إلى الحرب العالميّة الثانية تقريباً، كان هنالك نزاع اجتماعيّ وسياسيّ حيٌّ. كان الناس يعترضون ويتظاهرون. لم يكونوا يتظاهرون الخطّ معين من الشركة الوطنيّة للسكك الحديد في فرنسا. لا أقول أنّ هذا يدعو للاحتقار، إنّه مع ذلك هدفٌ، ولكنّهم كانوا يتظاهرون لأجل قضايا سياسيّة حيث العمّل ينفّذون إضراباً. لم يكونوا يُضرِبون دائماً في سبيل مصالح صغيرة حِرفيّة. كانت هنالك قضايا كبيرة تهمّ كل الأُجراء. تلك النضالات وسَمَت القرنين الأخيرين. إلّ أنّ ما نشهده اليوم هو تراجع نشاط الناس. وها هي حلقةٌ مفرغة. كلّما انسحب الناس من النشاط يتقدَّم بعض البيروقراطيّون والسياسيّين والمسؤولين المزعومين، خطوةً. لديهم تبرير جيّد: أنا آخذ المبادرة لأنّ الناسَ لا يفعلون شيئاً”. وكلّما هيمن هؤلاء الأشخاص أكثر، فإنّ الآخرين يقولون لأنفسهم: “الأمر لا يستحقّ التدخّل، هناك ما يكفون للاهتمام بذلك، ثمّ، على كلّ حال، لا يمكن القيام بشيء في هذا المجال”. هذا هو السبب الأوّل. السبب الثاني، والمرتبط بالأوّل، هو انحلال الإيديولوجياّت السياسيةّ الكبيرة. إيديولوجياّت أكانت ثوريةّ أم إصلاحيةّ، كانت تريد حقّاً تغيير الأمور في المجتمع. لألفِ سبب وسبب، فقدت هذه الإيديولوجيّات حظوتها، لقد كفَّت عن مواءمة العصر، وعن التعبير عن تطلّعات الناس، ووضع المجتمع والتجربة التاريخيّة. كان قد وقع ذلك الحدث الضخم الذي هو انهيار الاتحاد السوفيتيّ والشيوعيّة. هل يمكن أن تُسمّي لي شخصا واحدا من السياسييّن كي لا نقول الدّسّاسين (من يتعاطون الدسائس السياسيةّ) من اليسار، فكّرَ حقيقةً بما جرى، ولماذا جرى، كما يُعبَّ عن ذلك ببلاهة، ومَن استخلصَ العِبر؟ بينما كان تطور من هذا النوع، جديراً في بداية مرحلته الأولى الوصول إلى الوحشية، والشموليّة، والغولاغ [معسكر المنفيّين السياسيّين في الاتحاد السوفيتيّ سابقاً]، إلخ… وفي ما بعد، في الانهيار، جديراً بتفكير معمَّق جدّاً وباستنتاج حول ما يمكن أن تفعله حركةٌ تريد تغيير المجتمع، أو ما يجب عليها أن تفعله، أو ما يجب عليها ألاّ تفعله، أو ما لا يمكنها أن تفعله. إلّ أنّ النتيجةكانت صفراً! بالتأكيد، إنّ ما نُطلق عليه الشعب، الجماهير، يستخلص العبر التي يمكن أن يستخلصها ولكنّه ليس مستنيراً حقيقةً.
كنتَ تحدّثني عن دور المثقّفين: ماذا يفعل هؤلاء المثقّفون؟ ماذا فعلوا مع ريغان ومع تاتشر ومع الاشتراكيّة الفرنسيّة؟ لقد أخرجوا من جديد ليبراليّةَ بداية القرن التاسع عشر الخالصة والمتصلّبة، التي حوربت خلال مائة وخمسين عاماً والتي كادت أن تؤدّي بالمجتمع إلى كارثة لأنّ ماركس العجوز، في النهاية، لم يكن مخطئأً تماماً. لو كانت الرأسماليّة قد تُركت لنفسها، لكانت انهارت ألف مرّة. لكانت حصلت أزمة إفراط في الانتاج في كل السنوات. لماذا لم تنهر؟ لأنّ العمّل ناضلوا. فرضوا زيادات في الأجور، وبالتالي خلقوا أسواقاً ضخمة للاستهلاك المحلّي. فرضوا تخفيضات في ساعات العمل، وهذا ما امتصّ كل البطالة التكنولوجيّة. نُصاب بالدهشة اليوم لوجود بطالة. ولكن منذ عام 1940، لم تنقُص ساعات دوام العمل. نقول «تسع وثلاثون ساعة»، «ثمانٍ وثلاثون ساعة ونصف»، سبع وثلاثون ساعة وثلاثة أرباع الساعة، هذا مثير للسخريةّ!… إذا،ً كانت هنالك هذه العودة لليبراليّة، لست أرى كيف ستتمكّن أوروبا من الخروج من هذه الأزمة. يقول لنا الليبراليّون: «يجب أن نثق بالأسواق». ولكنّ ما يقوله اليوم هؤلاء الليبراليوّن الجُدُد، قد دحضَه الاقتصاديوّن الأكاديميوّن أنفسهم في الثلاثينيات. لقد أثبتوا أنّه لا يمكن أن يكون فيه توازن المجتمعات الرأسماليّة. هؤلاء الاقتصاديّون لم يكونوا ثوريّين ولا ماركسيّين! أثبتوا أنّ كلّ ما يرويه الليبراليّون- حول فضائل السوق التي تكفل تخصيصاً أفضل تخيصصٍ ممكنٍ، والتي تكفل موارد، وتوزيع المداخيل الأكثر إنصافاً ممكناً هو أمرٌ تافه! كلّ هذا جرت برهنته، هو لم يُدحَض قطّ. ولكن هنالك ذلك الهجوم الاقتصاديّ السياسيّ للطبقات الحاكمة والمهيمنة الذي يمكن أن نرمز إليه بأسماء ريغان وتاتشر حتّى ميتران! قال: «حسناً، لقد مرحتم بما فيه الكفاية. الآن، سنصرفكم، سنخفّف النفقات الصناعيّة سنُلغي «النفقات السيّئة»، كما يقول السيّد آلان جوبيه! ثمّ سترون أنّ السوق سيضمن لكم مع الوقت رغدَ العيش». مع الوقت. بانتظار ذلك، هنالك 12.5 %من البطالة الرسميّة في فرنسا!