التشكيلي رشدي عبد المجيد بين الهواية والغواية

تقع تجربة عبد المجيد رشدي ضمن دوائر التماس بين الإبداع والغواية، أعمال تظل منفتحة أمام باب التجريب والتطوير بفضل الاشتغال الدائم والمتابعة المستمرة لمختلف المعارض والتجارب التشكيلية، عموما يمكن تصنيف هذه التجربة ضمن سياق التمرس العصامي الخاضعة والاجتهاد الشخصي، ولا ينقص من قيمتها الجمالية عدم خضوعها للتكوين الأكاديمي، لأنها في اعتقادنا الشخصي تجربة مجددة ومتجددة، على مستوى الإنتاج الفني، أو على مستوى آليات الاشتغال، لذلك ستبقى تجربة في حاجة إلى الكشف والاكتشاف، مادام صاحبها ملتزما الصمت، بعيدا عن دائرة الضوء، رغم اعتراف تشكيليين ونقاد وأكاديميين بنضج التجربة في بُعديها الفني والجمالي.
الملاحظ على تجربة رشدي التحرر من قيود الالتزام بالمعايير الجمالية التي فرضها تيارات ومدارس الفن التشكيلي، فهو فنان دائم السفر والارتحال بين مختلف الحركات والتوجهات، منصاعا لذائقته الإبداعية ورؤيته الفنية، تجريب دائم يجعل كل مرحلة هوية فنية مستقلة حاملة لمشروعها الفكري والاستيطيقي، مرحلة متفردة بانشغالاتها وأدواتها التعبيرية، بيد إن الاستقلالية ما هي إلا توثيق لتلك المنعطفات المفصلية داخل صيرورة مشروع إبداعي منسجم، يستدعي انخراطا فعليا للمتلقي في البحث عن التقاطعات الكائنة والممكنة والتي من شأنها تأكيد تلك السلمية الناظمة والموجهة لاستراتيجيات التناغم والانسجام. لمختلف المنعطفات الإبداعية، منعطفات تترجم الأثر العميق للعديد من تيارات الفن التشكيلي،إذ استلهم بصمات المدرسة الانطباعية، حيث حملت مجموعة من لوحاته موضوعات العالم الخارجي، موظفا تقنية محاكاة ألوان الطبيعة الفاتحة التي تمنح قوة حضور تلك الموضوعات، كما تُعطيها دينامية ضوئية تعطي للجزئيات والهوامش حضورا ملحوظا دون التدقيق في رصد تفاصيلها كما يفترض ذلك توجه المدرسة الواقعية، ومن أهم العلامات الدالة على هذا التوجه الانطباعي، تلك النتوءات التي تُراكمها الضربات المتتالية للفرشاة، والتي تخلق حركات تموج لونية تجعل العناصر المرئية قائمة على التجاور وتسمح بانتقال كمياء الطاقة الضوئية من اللوحة إلى عين المتلقي من جهة ثانية، لا شك أن هذا التوجه الفني لا يُعبر عن محاكاة اعتباطية، بقدر ما كان ضرورة أملاها الانتماء لمدينة وهبتها الطبيعة جمالية عناصرها، سحر ألوانها، آزمور الواقعة بين النهر والبحر، والمتربعة على مساحات خضراء شاسعة، هذا الانتماء دفع رشدي إلى تتبع حركات المد والجزر، الشروق والغروب، الضوء والظلال، الحركة والسكون (…) ثنائيات الطبيعة تلك، دفعته إلى محاولة رصد الحركة وتتبع التغيرات وترجمتها عبر الألوان والأشكال كما تحدث في الطبيعة. إن التجربة الانطباعية هي تعبير عن مرحلة الملحمة التي تعكس روح الانسجام والتناغم الذي عاشته الذات المبدعة مع العالم الخارجي، زمن المصالحة والتوافق، لذا نسميها المرحلة التشكيلية الشعرية.
عموما، تنفتح تجربة عبد المجيد رشدي أمام العديد من المدارس والحساسيات التي تجعل منها تجربة خاضعة للتجديد والمغايرة، تجديد يمكننا من تحقيب المراحل الإبداعية بدأ بالمرحلة الانطباعية ذات النفس الملحمي ثم المرحلة الرمزية والتجريدية التي توارت فيها عناصر العالم الخارجي وحل محلها الشكل والعلامة السيميائية، وثم إخضاع المنجز الفني لعمليات التوليف البصري بين الشكل والخط واللون، وهو خرق لثنائية الشكل والموضوع وردم فجوة التوتر بينهما، وجعل الاستثارة الجمالية قائمة على دمج الموضوع والشكل ضمن نسق تكاملي، جاعلا من الرؤية والتعبير واللون والخط والعلامة نسقا واحدا، ويتضح هذا الاندماج الجمالي في منجزات فنية عديدة ركزت على توظيف الأشكال الهندسية والتصميمات الرياضية، وتحويل رقعة اللوحة إلى أشكال بصرية، تشبه رقعة الشطرنج، لتأخذ في النهاية هيئة دوائر أو مستطيلات أو مربعات متناظرة مرئيا، تبعا لما تمليه طبيعة الرؤية التعبيرية والفكرية والجمالية. لقد لجأ رشدي، في الكثير من لوحاته إلى جعل العمل الفني قويا وعنيفا، من خلال اللجوء إلى خلق التنويع والتعدد الشكلي والبصري، تنويع تتولد عنه الحيرة والقلق البصري، في غياب المركز، وتتحرك عناصر اللوحة وخطوطها في جميع الاتجاهات، بل يتحول كل عنصر من تلك العناصر إلى مرآة قادرة على أن تعكس الموضوع التعبيري الكلي، هذه التقنية الإنشطارية والتي تبدو تلقائية وطبيعية، في لوحات رشدي، نجدها حاضرة في العديد من الأعمال العالمية، خاصة عند رامبرانت وسيزان، كما كانت حاضرة في أعمال التكعيبية والتجريدية.
إن الأساس الذي قامت عليه هذه التقنية الانشطارية هو الدينامية والتفاعلية بين جميع العناصر، كل عنصر مهما كان متناهيا في الصغر، أو يبدو هامشيا، فهو قادر على الإسهام في بناء الدلالة البصرية الكلية، ولا يمكن فهم اللوحة إلا من خلال أجزائها، هكذا تتم عملية تبادل الإضاءة بين الكل والأجزاء، وعليه تخرج الأعمال الإبداعية والفنية لرشدي عن نمطية الاستهلاك إلى حيز الاستفزاز، وتحفيز المتلقي على الانخراط الفعلي في بناء المعنى، انطلاقا من قواعده المعرفية ومهاراته التأويلية لتلك العلاقات الجدلية الكائنة والممكنة بين الكل والأجزاء، ولا يتحقق الانسجام الفني والتناغم البصري لعناصر اللوحة إلا عبر البناء الذي يجتهد المتلقي في توليف تفاصيله، وهو ما يمنح العمل قيمته الجمالية والإبداعية.
لقد تمكن رشدي عبد المجيد، على امتداد تاريخ تجربته التشكيلية، من توليد وتجريب العديد من الرؤى التعبيرية والجمالية، والتي تترجم ذلك الزخم المعرفي والثقافي الذي راكمته ذاكرته الإبداعية، إذ جسد الموروث الإفريقي والفرعوني رافدا إبداعيا مهما للعديد من منجزاته الإبداعية، إذ يستلهم العديد من الرموز والعلامات باعتبارها حوامل دلالية، تعبر عن تعقد العلاقات الإنسانية والوجودية، أو هي في نفس الوقت بدائل معرفية وتفسيرية لمشكلات ميتافيزيقية، وأحيانا أخرى يمكن اعتبار تلك العلامات، تعبيرا عن وضعيات شعورية كالفرح والحب والإخصاب والتوالد والموت والحياة والأمل والسعادة، وكلها وضعيات ورغبات، قد تتجاوز ما هو طبوغرافي لتصبح رموزا لقيم إنسانية عامة.

ناقد مغربي


الكاتب : الفاقيد عبد الفتاح

  

بتاريخ : 17/04/2023