هناك أحداث كثيرة ومواقف متعددة ،وذكريات تراكمت على مر السنين، منها ما تآكل مع مرور الزمن، ومنها ما استوطن في المنطقة الضبابية من الذاكرة، لكن تبقى هناك ذكريات ومواقف وصور ،عصية على الاندثار والمحو ،لأنها بكا بساطة ،كان لها في حينه ،وقع في النفس البشرية، ليمتد هذا الوقع إلى القادم من الأيام من حياة الإنسان.
في هذه الرحلة، ننبش في ذاكرة كوكبة من الفنانين ،حيث منحتهم إبداعاتهم ، تذكرة الدخول إلى قلوب الناس بدون استئذان، وهي إبداعات فنية ، استحقت كل التقدير والاحترام والتنويه داخل المغرب وخارجه، كما استحق أصحابها الاحتفاء بهم ، ويجدوا أنفسهم وجها لوجه مع ملك البلاد.
هنا نستحضر، ونسترجع بعضا من ذكريات هؤلاء الفنانين المبدعين مع ملوك المغرب ، بعدما صنعوا أسماءهم بالجد والاجتهاد والعطاءات الثرية كما وكيفا، واستطاعوا فرضها في ساحة تعج بالنجوم .
يتذكر الفنان القدير الطاهر جيمي، سنوات الازدهار الموسيقي ما بين نهاية الخمسينيات ونهاية الثمانينيات، إذ كانت هناك أسماء وازنة تضاهى في الكثير منها عمالقة الطرب المصري والمشرقي عموما، وعلى رأس هذه العبقريات، كان الأستاذ المرحوم السي أحمد البيضاوي الذي كان ساعتها رئيسا لقسم الموسيقى بالإذاعة الوطنية، وكان كما نعلم، قد رصع الخزانة المغربية بالعديد من الأعمال الفنية الكبرى على قاعدة العربية الفصحى، نظرا لما كان له من ثقافة عالية وشغف بالشعر العربي الأصيل قديمه (المعلقات والأندلسيات) وحديثه كذلك، وكان صارما في التعامل مع الإنتاج الموسيقي، إذ كان يؤكد على الجودة: جودة النصوص المغناة وجودة الألحان وجودة العزف وجودة الأداء، ولعل ذلك ما شكل حوله مجموعة من الغاضبين الذين كانوا ذات مرة قد وقعوا عريضة ضده وطلبوا أن أوقع معهم، فرفضت نظرا لقناعتي باختياراته.
وذات مرة ونحن بمقهى «اكسليور» بالدار البيضاء، يقول الطاهر جيمي، وهو يسترجع مساره الفني في لقاء سابق مع جريدة الاتحاد الاشتراكي، مع الإعلامي والشاعر أحمد صبري، رحمه الله، فاجأني أحمد البيضاوي قائلا: «إن بعض الظن إتم يا طاهر، ولعن الله المشائين بالسوء»، استغربت لهذه الكلمات التي وردت من رجل كان ينظر إليّ نظرة استصغار ظنا منه أنني مع الموقعين ضده·
نعم، كان حرصه حصانة للأداء الموسيقي، وعلينا اليوم أن نرجع إلى زمانه لندرك أنه لولا تلك الصرامة، وذلك الحرص، لما بزغ الدكالي، والمعطي بلقاسم وفويتح وإسماعيل أحمد والغرباوي والعابد زويتن وعبد الهادي بلخياط وبهيجة ادريس ونعيمة سميح إلخ··· ولما ظهر ملحنون كبار أمثال: العميد المرحوم عبد القادر الراشدي وعبد السلام عامر وعبد الرحيم السقاط ومحمد بن عبد السلام والعربي الكواكبي وعازفون عمالقة مثل عمر الطنطاوي (ملك العود)، والذي يرجع له الفضل في تنسيق وتهذيب العديد من الأغاني الرائعة كالقمر الأحمر والشاطئ وغيرهما كثير· إنه كان «ميكانيسيان الألحان»· كما كان المرحوم عبد القادر الراشدي «ملك الأوزان»، والذي مازال المغرب لم يحظ بنظير له لحد الساعة، الراشدي الذي كان لا يعزف قطعه إلا العازفون البارعون المتمتعون بحس موسيقي كبير وبثقافة عالية في الميازين بالإضافة إلى الناياتي البارع بن ابراهيم والكمنجاتي بلهاشمي، رحمه الله، وصالح الشرقي وسلام الحجوي وغيرهم ، هؤلاء الذين كانوا كلهم يتنافسون بشرف في الإذاعة والتلفزة المغربية وعبر السهرات الرائعة، سواء في المناسبات الوطنية أو في السهرات المبثوثة إذاعيا وفضائيا، ولما ذاع صيتهم عبر المغرب العربي والمشرق العربي كذلك، خاصة في ذلك التفاعل الفني الذي كان يحصل بتوافد الفنانين المصريين والمشارقة للمشاركة في الاحتفالات الرسمية بالمسارح أو بالقصر الملكي بحضور جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني الذي كان فنانا عالما بأصول الموسيقى وليس هذا قولا جزافا، بل إنها الحقيقة التي يعرفها كل من عاش هاته الفترة، وخاصة منهم المشارقة الذين كان رحمه الله «يحنتهم» في الميازين.
ويستحضر الفنان الكبير الطاهر جيمي، استقبال الملك الحسن الثاني، رحمه الله، لسيدة الطرب أم كلثوم والأستاذ محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وصباح وهدى سلطان وعبد الحليم حافظ وغيرهم·
وكان لهذه الفترة فرسانها الشعراء الكبار، بدءا بالزعيم الراحل علال الفاسي والمرحوم محمد بلحسن والمرحوم وجيه بهي صلاح والعزيز حسن المفتي وادريس الجاي وعلي الصقلي ومحمد الطنجاوي والبقالي ومحمد الحلوي كما لها زجالوها الكبار كذلك: الطاهر سباطة مالوروان، حسن المفتي أيضا وحيد لعمارتي، علي الحداني، فتح الله لمغاري··· إلخ·
نعم، يقول جيمي، كان الملك الراحل الحسن الثاني يشاركهم لحظات الأداء ليس كمستمع، بل كعارف وخبير، وإلا لما كان يختار لكل سهرة الفنانين المناسبين وأشهد أنه كان غيورا على الأغنية المغربية بشقيها الشعبي والعربي يتفاعل معها ويقدر المجهودات المبذولة لتحسينها لحنا وأداء، وكان له حس رهيف يدرك الأخطاء والهبطات والانزلاقات بسرعة، وإنني لسعيد لأنني كنت أنعم بحضور هذه الحفلات بدعوة كريمة منه تقديرا لعطائي الفني. والمعروف أنه، رحمه الله، كان يختار ضيوفه بدقة، وأهم ما كان يشغلني في هذه الزيارات هي زيارة المرحوم عبد الحليم حافظ الذي كنت أجاوره وأرتاح له ويرتاح لي وأذكر حكاية طريفة وقعت لي معه، فذات مرة وأنا في أحد الشوارع بمدينة الرباط، فاجأتني سيارة يقودها مدير التلفزة آنذاك المرحوم محمد الزياني، والذي توقف وطلب مني أن أصعد إلى الوراء، فصعدت وكان هنالك رجل نائم، فقال لي الزياني: يمكنك أن توقظه فخشيت أن ينتفض ويضربني، لكنني ما أن حركته حتى ظهر لي وجهه ولم يكن غير عبد الحليم حافظ فتعرفنا على بعضنا البعض وربطنا منذئذ علاقة طيبة أنا وهو وطبيبه الخاص الذي كان يقول لي: إن عبد الحليم يرتاح لك كثيرا. كان رحمه الله يتحدث بصوت خافت وهادئ وهامس يكاد لا يسمع.
ولا أنكر أنني كنت مهووسا بعبد الحليم حافظ أداء ولحنا لأنني أقدر جدا تلك القيمة الفنية التي كانت تكتسيها الأغاني التي لحنها له العمالقة بليغ وكمال الطويل ومنير مراد والموجي وعبد الوهاب على الخصوص، كما كنت أقدر طاقاته الصوتية النموذجية، ومن ثم لم أكن أحس في أية لحظة بأنني معقد بتمثل عبد الرحيم حافظ كنموذج عظيم.
نعم كانت تلك الفترة غنية جدا بالعباقرة، وخاصة الأجواق الرفيعة، فبعد جوق الإذاعة الوطنية برئاسة المرحوم الأستاذ أحمد البيضاوي، هناك الجوق الملكي برئاسة الأستاذ عبد السلام خشان وجوق الدار البيضاء بقيادة المرحوم المعطي البيضاوي ثم جوق فاس برئاسة المرحوم السي أحمد الشجعي، بالإضافة إلى جوق مكناس برئاسة محمد بن عبد السلام والأجواق الجمعوية الحرة مثل: جوق التقدم بالدار البيضاء وجوق الهلال بتطوان وغيرهما، وهذه الكثافة الفنية الرائعة كانت تجعل الأجواق الموسيقية العربية الواردة من المشرق مثل الفرقة الماسية تقف وقفة احترام لها ولعناصرها من العازفين المهرة، والذين كان المرحوم أحمد فؤاد حسن رئيس تلك الفرقة يكن لهم تقديرا كبيرا، وعلى رأسهم الأستاذ البيضاوي والأستاذ الراشدي رحمهما الله.