بحثاً عن منطق لوجودٍ جديدٍ، في خِضَمّ أشياء مبعثرة

أحمد المديني

أحمد المديني

أحداثٌ وأشياءُ مُبعثرة. وجوهٌ متكررة. أشكالٌ متنافرة. موادٌ من يقدر على جمعها لإرادة تركيبها بجعلها كياناً واحداً لفهمها، لا سبيل لهذا، فنوجِدُ لها كلمات مبعثرة مثلها، للتّسمية وإمّا للصفة، وذلك لنتخلص منها أو بُغية تثبيتها كي تندرِج في سِجِلّ القاعدة أو الفكرة المسلّم بها وحتّى تلك البدَهيّة. هنا يصبح المبعثرُ وليدَ الغباء، نتاجَ العياء، وصدأ التكرار، يستقر مبدأً، قاعدةً، ليسود سلطةً تتعدّانا نحن صانعيها أو ظننا بفعل حقيقة صاعقة سرعان ما تتبخّر بدداً وفقاعاتِ كلماتٍ تهوي مبعثرةً كما بدأت. الكلمة، الفكرة، الرأي المشترك ذاك المسلّم به ولا نرى لزوماً لفحصه وجَسِّ نبضه، ثمةَ قلبٌ ينبض في كلّ ما هو صِدق، ولمساءلته بعدَ القِدم، بعدَ مُضيِّ عصورٍ عليه وأجيال، وكيف بعد أن عددناه مِنَّا، عنصراً من هويتنا، كثيراً ما تسمّى عناداً ونكايةً في كلّ قادمٍ ومتحوّل، أصالةً وثوابت. سنؤلّب علينا الجيران، هم وسكانَ الحي، بل والخلقَ أجمعين، نحن الذين قبلنا طواعية واستسلمنا قسراً لدخول سجنٍ سواء أغلقنا بابه علينا بأيدينا هذه أو سُدّ علينا سدّاً من خارج. حين يتحول المجتمع إلى فضاء وعلاقات وثقافة وقيم الرفضُ فيه استثناءٌ والقبولُ والاستسلامُ هما القاعدة، اعلموا هذا سجنٌ كبير، ولو بقضبان من ذهب للمرفّهين.
كي نوقف بعثرةَ الكلمات ونجمعَ الأشياء في سَبحةٍ واحدة يقول العقلُ إننا في حاجة إلى منطق، التعليل والسببية اللذان يصنعان التركيبَ ويُجيزان المعنى. في أحوال المجتمعات، العملية التي يتجسّد فيها العمرانُ البشري، ليس المنطق صيغةً ذهنيةً وإن اقتضى بدءاً التصورَ الذهنيّ، أي ما هو بتجريد ولا ميتافيزيقا، وإنما يُبنَى ويُستمدُّ من عناصرَ ووقائعَ ماديةٍ هي فعلُ الإنسان في ضوء معيشه الموضوعي وبناءً على حاجاته وإمكاناته ومطامحه التي تصنعها إرادتُه، بالذات. في الأرض، إرادةُ البشر العارفِ بحقوقه هي صانعتُه عندما تتبلور في هياكلَ وتتضافرُ في قوى عارفةٍ لما تريد وتختار من يقودها وتفوّض مسؤوليتها بوعي واختيار تجعل منها كتلة متراصةً وقوةً اجتماعيةً واقتصاديةً وسوراً منيعاً لا يسمح للقردة والبهلوانات أن يقفزوا فوقه ويحوّلوا الساحات إلى سيرك. كلُّ واحدٍ، فرقةٌ من فرق الدراويش بثياب مرقّعة وملطخة بالمساحيق، تؤدّي (نمرة) وتنصرف والجمهور الغُفل المغفّل يصفّق، لتتلوها فرقٌ تقوم بقفزات ترافقها أصواتٌ لجميع الحيوانات مفترسة وأليفة ومدجنة، وبما أنه لا منطق، فما تسمعه خليطُ قرقعة وعُواءٍ وقهقهة، والهَزْل يغلبُ لعبةَ الجدّ، إلى أن يظهر القطّ فتهربَ الفئران، إلى حين.
كيف للكلمات أن تنتظمَ في عِقد وتُكتبَ وفقَ نهج وفي ضوء فهمٍ وتُصاغ بأسلوبٍ وتحبَل بفكرٍ وتقولَ الظاهرَ ملءَ الباطن، المرئيَّ والخفيّ، المثيرَ ولا تهاب الحقيقيّ الصاعقّ كوهج الشمس، وهي، نحن في شتات، أمس كنا أحزاباً وجمعيات، أفراداً وجماعات، كالبنيان المرصوص، اليمين واليسار والمهادن الموالي، أيضا له اسمٌ وشعارٌ ولسانٌ وعنوان، يوم كان القومُ يقولون نحن هنا، الصادقون بإخلاص والماكرون يتلاعبون لكن بدهاء، والجلاّدون أنفسهم وهم ينكّلون بضحاياهم يُسفِرون عن وجوههم بلا حياء. كلمات مثل: حبّ، صداقة، وطن، شعب، نضال، إيمان، قضية، ثقافة، فكر، أدب، شعر، ذكاء، سياسة، إيديولوجيا، ياه، لأمرٍ ما كدت أنساهما؛ وأسماءٌ وصفاتٌ مثل: زعيم، مناضل، فقيه، قاضي، مفكّر، شاعر، أستاذ، طبيب، صيدلي، مهندس، تاجر، فلاّح، عامل، طالب، جمال، حُسن، لا مشاحة في الأسماء فقد كانت حقاً أسماء. لا تُسفِر الكلمات عن مكنونها إلا إذا فُرِكت، امتُحِنت على أجسادِ الرّجال والنساء، بالمنع والنفي والحرمان، بالصّبر والعفّة والكتمان، والرّضا بمقادير الأيام لأجل غدٍ أفضلَ بلا خِسّةٍ وهوان.
لا حنينَ إلى الماضي مهما علا وسما، الماضَوِيون رجعيون لأنهم مشدودون إلى زمن خلا، فِعلَ أقوامه وأزمنته، لا أشدو بموّال(الزمن الجميل) فإن استرجعتُه فلذكرَى ووجعُه خافِتٌ في الحنايا، عندي منه فَيض، إنما كم أراه بئيساً قياساً بما صار عليه الحاضر وحجمُ الأحلام والغائبِ من سجايا. بيد أنه حفَلَ بالشخصيات وتمثّل بالمذاهب والكيانات، حقيقةٌ لا تقبل الإنكار وليس لها مع المشاعر اعتبار. أنا لا أبكي حظّ العرب وحدهم، تفرّقوا أيدي سبأ، ولا أنعَى أمتي، ما أنعاه ظاهرةُ الزمن المعاصر بعد تفكك (الإمبراطوريات) التوتاليتارية، والأحلاف التقليدية، وتهافُت الإيديولوجيات المورثة عن القرن التاسع عشر آخرُها الليبرالية لا يتردد ورثتُها بقبرها ناعيتنَها بالوحشية ومنجرفين في طيّ عولمة ساحقة، والذين يعملون في الأوساط الأكاديمية الغربية وغمرةِ المحافل الثقافية يُروِّعهُم الضمورُ الفكري وهُزال الإبداع بأشكاله، وهيمنةُ الإعلام الاحتكاري المنمِّطِ للأذواق، الصانعِ للرّأي الواحد، إلى حدّ الهيمنة في محيط الاقتصاد الحرّ والتعددية السياسية على الرأي العام والصحافة ودور النشر والسمعي البصري، وتوسّعٍ مستفحلٍ لتياراتٍ شعبويةٍ ذاتَ اليمين وذات اليسار، فرنسا خيرُ مثال اليوم لهذا البوار.
هذا لا يعني أن المجتمعات الغربية إذ تشهد أفولَ إيديولوجياتٍ واهتزازَ طبقاتٍ وتَصدُّر فئاتٍ ومصالحَ أخرى منصّةَ التدبير مع ارتجاجات قوية، ذاهبةٌ إلى الزوال، الأزمة في هذه البلدان على أيّ مستوى تعني عدمَ الرضا على واقع وبحثاً عبر الصراع المحتدم عن انفراج وبدائلَ، بأطروحاتها الخاصة، وتخلق أسماءها ومصطلحاتِها وقاموسَها، وهي تندرج في ما بعديات حداثاتها لا ما بعد حداثة واحدة تلقّفها عندنا بعضُ الببّغاوات وبنوا عليها نظرياتٍ وهم يُخفون (حرماتهم) في الشارع والفيس بوك عن الأنظار أو يتبرؤون من الشبكات ويتكلمون لغة القبيلة. في جزء من حوار جرى بيني وبين مفكر فرنسي في محفل جامعي، شاركت فيه من موقع المتلقّي العربي، عجزت عن تقديم صورةٍ منسجمةٍ للوضع الكلّي للعالم العربي، ومنه بلدي، فعدا صدى أفكار ومفاهيمَ وتيارات، لم أستطع أن أقدّم لمحاوري بالمنطق المتماسك الذي تعلم به، هو والجمهور حولنا به يؤمن، ولا وجدت الكلمات المناسبة الحاملة للمعنى والتصور لأصف أوضاعنا، لم يكن غرضي أن أقدمها مماثلةً للنموذج الغربي في مظاهر وإيقاع الأزمات والتحول، ولكن بحدٍّ أدنى من الوضوح والانسجام، وهما غائبان لدينا، والأفق مدلَهمّ، آخرُ شعاعٍ بزغ كان (الربيع العربي) قيل كان خدعةً وتدبيراً آخرَ من مؤامرات الأجنبي علينا والحالُ أن المتآمرين منّا وفينا وقد فكّكونا وبعثرونا ورقّصونا وأفسدونا فضِعنا في المتاه نترنح بين أحداثٍ وأشياءَ صغيرة ونستعمل كلماتٍ مبعثرة. أيها المفكرون، أيها المبدعون، أو تستسلمون؟!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 19/04/2023