كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.
إن تنقل السلطان (أو ترحاله) ظاهرة معروفة قام العديد من المؤرخين بتحليلها في السنوات الأخيرة. وهذا التنقل يضمن حضورا حيث تكون قبضة المخزن ضعيفة، وهي بهذا المعنى تعبير عن السلطة، كما هو الحال في الإمبراطوريات الأخرى (وهذه واحدة من أكثر المميزات المشتركة للدولة الإمبراطورية، ليس فقط في الحالة المغربية حيث كان الترحال مهما لدى الملوك بل نجده في تنظيمات سياسية أكثر حداثة كما هو الحال في إمبراطورية الباطاجيني أو في الفضاء الجرماني.. ويذكر فيبر بأن الملوك الألمانيين كانوا «تقريبا في حالة سفر دائم» ويعود ذلك أساسا إلى كون» حضورهم الشخصي وحده، المتجدد باستمرار، يبقي على سلطتهم إزاء رعاياهم حية»، أما في فرنسا فكان لزاما انتشار حكم لويس الرابع عشر حتى تستقر الحاشية والقصر، ويتكلم فيبر عن «هجرة لا تتوقف» كنمط في الحكم يعيد تحيين سلطة الملك عبر الحضور) في المقابل نجد أن لوجستيك هذا الحكم عبر الترحال أو التنقل قلما تعرض للدراسة. في حين أن ابن زيدان، في الفصول التي خصصها لتنقل وحركية السلطان وجغرافية سفره يصف بالتفصيل موجبات حاشية في حالة حركة.. أولا يجب إرسال الجغرافيين لرصد مسار الرحلة، واختياره بناء على متطلبات الأمن والسلامة وتحديد مراحله والتأكد من عدم مناوءة السكان، وتنظيم تموين البواخر وتخزين الحاجيات الضرورية وتحديد سبل تحرك الجيش والحاشية. بعد ذلك يجب، في لكل مرحلة من المراحل، بناء المعسكرات مع احترام الهندسة الاجتماعية المحددة سلفا، أي نصب الخيام تبعا لدوائر متتالية طبقا للتراتبية الاجتماعية، حسب مجموعات الوضع الاعتباري لكل واحدة منها، وفي قلب ذلك الخيمة الملكية، وخيمة عائلته المقربة ومسجده، ثم توزيع الألبسة والخيول والأسلحة. التفكير في دخول وذهاب السلطان، تنسيق تنقلاته، قضاياه، ونشاط البريد المتنقل، تنظيم الحكومة، أي طريقة الاجتماع، إصدار الأحكام، المكافأة أو العقاب واستقبال القبائل واحترام البروتوكول، ومجمل القول الإدارة مع الحركة، وتحديد انشغال كل واحد بمهمته وتنظيم الوصول إلى العنوان المقرر، والطريقة التي يتم بها إشعار الناس…إعادة إنتاج الحاشية باستنساخها حرفيا، وهي الوحيدة التي تشهد استمرار الدولة – بطرق لوجيستيكية رفيعة ومتطورة مسنودة إلى منظومات حرفية متخصصة. بعضهم عليه إحصاء الناس، الجمال، الخيول، الحمير، البغال أو الخيم الضرورية، البعض الآخر عليه التكفل بتوزيع هاته الأخيرة على البواخر أو شراء المواد الغذائية، آخرون مكلفون بتنظيم شؤون الملك حسب المناسبات والأحداث والسياقات، النوع الرابع يحشد الجيوش من بين القبائل في حين يتكلف آخرون بالتسلية (الموسيقى والحكايات…) حسب نظام دقيق.
كل هذا اللوجستيك يبرز بيروقراطية نشطة وعاملة وتنظيمية على شكل تجمعات متعاونة ويحدد معايير الإيرادات حسب مسيرة القيادة، والصناعة وتوزيع الخيام وتدعيم الحساب أو باللجوء إلى صيغة غير متزامنة مع لحظة تقديم الحساب باعتبار أن كل هذه الأنشطة تكون موضع «محاسبة» تسمح بتتبع دقيق … وتحديد الأجهزة المعيارية في تنظيم لوجيتسيك تغذية الماشية والناس تبعا لعملية التفويض. إن «تكليف بمهمة» يحدد بدوره من يعطي وماذا يعطي ومتى يعطي، واستعمال في تحديد الكميات سواء تعلق الأمر بالتغذية أو بالخيام، عبر ترقيم وتنظيم ضروريين لتوزيع كلفة «الحَرْكة».. على مختلف القبائل ..
(إن خلفية الترحال تفسر في المجتمع المغربي الرابط بين التنقل والانطباع بالارتجال، فليس الرعاة هم وحدهم من يتحرك بل عموم الناس يسافرون بسهولة مثلا في كل المدن الصغيرة حول الأضرحة والمواسم، ولعل «الممثل تريفور» هو وجهه الناضج اليوم، وكافاءته في هذا الباب ليست فقط محط إعجاب وتقدير بل هي ضرورية في الأنشطة الاجتماعية ولا سيما الحضرية).