تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه الباحث والكاتب المسرحي حميد اتباتو:
pp اقترحتم في مشروعكم الفكري النقد المزدوج كاستراتيجية لتفكيك الميتافيزيقا، ولرسم صورة المغرب المتعدد، ولتجاوز عمى الهوية، والاختلاف المتوحش، فهل وصل خطابكم بالصيغة التي رغبتم فيها؟
n n “الهوية” و”الاختلاف” و”النقد المزدوج” مفاهيم تطورت مفاهيم تطورت خاصة أنه لم يكن لدي مشروع واحد بل مشاريع فكرية عديدة، لأن لي تفكير وتساؤل منظوري، أي أنني أقوم بفتح بعض الأبواب.
لقد بدأت تجربتي الفكرية بعلم الاجتماع ومسالة الطبقية سواء في المغرب، او بلدان العالم الثالث، بدأت إذن بتساؤلات حول المجتمع، وكانت لي في نفس الوقت اهتمامات بالفلسفة، كما انشغلت باهتمامات أخرى متنوعة لأني أجتهد في ممارساتي، ولهذا من الصعب في بعض الأحيان أن نتابع هذا الإنتاج الذي أقوم به خاصة أني أحترم الشعب المغربي واقدم للقارئ المغربي كتابات في مستوى متقدم، كما أن تشجيع الفكر المتخلف يزكي التخلف ويعمل على مراكمته.
إن منهجية التساؤل هي مشروع في حد ذاته، فتحت بابا في علم الاجتماع مع آخرين، وساهمت في تأسيس بداية لمدرسة اجتماعية في المغرب، ثم انتقلت إلى الاهتمام بالثقافة الشعبية باعتبارها جزءا من المجتمع، لأني أهتم بالفئات الصامتة والمكبوتة، ولأني أدركت أنه لا يمكن أن نتكلم عن المجتمع، إذا لم تكن له كلمته ضمن التحليل نفسه، كان هذا بعد أن ادركت نوعية العلاقة الرابطة بين كبت المجتمع وكلام المثقف، عدت إذن إلى أسس الثقافة الشعبية في الأدب الشفوي والفنون الشعبية والعادات والحياة اليومية، أي أني انتقلت إلى البحث في الحياة اليومية من الناحية الاجتماعية والسيميائية، وبهذا فتحت بابا آخر، فتح بدوره المجال للعديد من الكتابات حول الثقافة الشعبية في هذه الجهة أو تلك وحول الوشم وحول الموسيقى، وحول أشياء أخرى عديدة.
لقد لعب كتاب “الاسم العربي الجريح” دورا مهما في توجيه منهجية تحليل الثقافة الشعبية، كما اقترح منهجا يمكن استثماره في مجالات أخرى، بالإضافة إلى هذه الأمور، فتحت فيه بابا آخر ربطت فيه بين علم الاجتماع والتحليل النفسي، حيث قمت بدراسات حول الجنس في القرآن الكريم وحول مفهوم الجسد وحول مسألة الجنون وحول قضايا أخرى…وكان لي أيضا حوار مع الفلسفة، خاصة الفلسفة النيتشية، لأن نيتشه، في نظري، فتح أبوابا كثيرة للفكر بصفة عامة؛ فهو المؤسس للحداثة في الفلسفة، أي أنه آخر فيلسوف بهذا المعنى، وبعده بدأت تجربة في الفلسفة.
بالإضافة إلى كل هذه المراحل، التي ميزت مشروعي الفكري، هناك أيضا مرحلة الاهتمام بالفنون العربية الإسلامية، كجزء من التراث وليس التراث الشعبي ولكن التراث الشعبي العام. فمشروعي ليس مشروعا تجريديا محضا كما يقول بعض العلماء، فانا أقوم باكتشاف مجالات خطوة، أما بالنسبة للاهتمام بالسياسة الذي لوحظ علي مؤخرا، فأنا أقول إن السياسة موجودة في كل كتاب، لكن لأول مرة أهتم بقضية مطروحة هي “حكومة التناوب” وقد حاولت أن أبحث في خلفيات هذه المسألة، وأنتظر الآن ما الذي سينتج عن هذا التحليل، وأنا بهذا الأمر أحاول ان افتح بابا آخر، لأن الأمر يحتاج إلى مبادرة أولى ثم تتبع الخطوة بخطوة أخرى من طرف آخر، خاصة أننا نلاحظ انه ليس هناك نقاش بين المثقفين، وأنا أتحدث عن حرب المواقف، بل عن الحوار في المسائل الأساسية التي تهم الوضع المجتمعي بالمغرب فهناك الان قضايا عديدة اجتماعية وسياسية مطروحة، وأنا دائما أرغب في تفعيل حوار إيجابي بصدده يشارك فيه الجميع، فالمثقف لا يعطي الدروس للقارئ أو للطلبة، إنه هو الذي يأخذ دروسا في الحياة، ويقوم بدراسة ذلك وغربلته وتأويله واستثمار كل هذا في بناء منهجية فكرية، فانا كمثقف لا أعطي الدروس، لأي كان، ولا أرغب في أخذ الدروس عن أي كان أيضا، إننا نتساءل الآن عن الحوار بين المثقفين أنفسهم، وبين المثقفين وبين الناس أيضا؟ فالحوار غائب إلى حد ما، ولا نرصد له أثرا في واقعنا.
pp بعض البلدان كفرنسا مثلا، كل وضعية في المجتمع وإلا تفعل حولها النقاش والجدال والحوار بين المثقفين وداخل الراي العام ولدى كل المهتمين، إلا أننا لا نلاحظ ذلك عندنا، لأن الحوار حتى وإن تم لا يفعل إلا من جهة محددة غالبا ما تكون سياسية، فلماذا بالضبط لا ينخرط الجميع في النقاش والحوار حول القضايا في المجتمع المغربي؟
n n يجب أن تكون هناك جدلية بين التحليل والسجال، لننا نلاحظ أن ما يوجد هو حرب للمواقف، وليس الحوار وإنه نوع من ممارسة العنف على الآخر، فمن أسس الحوار الاستماع إلى الآخر كآخر والاعتراف له لحقه في الرأي كآخر، نحن بحاجة إلى طرح الأسئلة الصحيحة؛ لأن طرح الأسئلة الصحيحة هو جزء من الجواب. يجب إذن القبول بالحوار وبالراي الآخر بالإضافة إلى طرح الراي الخاص وتدعيمه بالحجج، لأن الحوار ينبني على هذه الأسس على عكس حرب المواقف، وللأسف، يسود عندنا خلط كبير بين الحوار وبين حرب المواقف.