تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه الباحث والكاتب المسرحي حميد اتباتو:
p لماذا الكتابة باللغة الفرنسية عوض الكتابة باللغة الأم؟ إرث استعماري، طريق نحو المنفى، انهمام بحرية واسعة في التعبير، صدفة تاريخية؟
n واجهتني فكرة معينة للغة واللسان، مثلما يواجهنا مكان صامد للفراق. في مساري كما في مسار كل واحد، فإن نشأة اللغة تتم بفعل حتمية تاريخية. شرعت مبكرا في الكتابة باللغة الفرنسية في المدرسة. فهي كانت منذ البداية لغتي في الكتابة والعمل. وشيئا فشيئا، أحدثت هذه اللغة المكتسبة، نوعا ما، تغييرات على لغتي الأصلية (لغة الأم) وهي اللغة العربية. وهو موضوع رواية «عشق اللسانين». في الواقع، فإن الفرنسية لغة للكتابة، تحدث تغييرات على اللغات الأصلية، إذا كانت مختلفة.
بدأت بكتابة بضعة قصائد، باللغة العربية، باسم مستعار. وفيما بعد، شرعت في الاشتغال على الازدواجية اللغوية diglossie بين اللغة العربية، ولغة الأم (اللغة الأصلية) واللغة الفرنسية. وقد اتخذت من ذلك إذا، موضوع رواية «عشق اللسانين». لكن في الواقع، إن مساري كله، يخترقه التفكير حول اللسان، والأحادية اللغوية، والتعددية اللغوية، الازدواج اللغوي. أن أذهب فيما يذهب إليه موريس بلانشو، أن هنا ازدواجا لغويا قائما، ليس فقط بين الفرنسية التي نتكلم (المنطوقة)بها وتلك التي نكتب بها، بل على مستوى خطابين مختلفين. والكتابة تهدف إلى إعلان الانفصال، لإرساء قانون مختلف للكتابة. ولهذا السبب أيضا، فإن الكتاب لا يتكلمون بالطريقة نفسها. لغة الكتابة تضطرهم إلى الاشتغال على كل اللسان بشكل جذري. وبنفس الطريقة، فإن الازدواجية اللغوية، بين لغة الأم العربية، المتحدث بها، والفرنسية بوصفها لغة للفكر والكتابة، تحدث تحولات على اللغة الأم بفعل لغة الكتابة. وهذا ما يفسر خلو نصوصي، عموما، من التعابير العامية،
لأنها تذكرنا قليلا ما بالفولكلور. وأنا أستعمل كلمات بالعربية فقط، حينما يتطلب الأمر دقة، أو موجها، نوعا ما، ليكون جزءا حيا من اللغة الفرنسية. إذا، فموقفي شديد الصرامة، وما دامت كاتبا معبرا بالفرنسية، الفرنسية بوصفها لغة للتعبير والتفكير، فأستخلص أن هناك تحولات طارئة على مخزوني اللغوي، عربي في أصله، تم توالت بعد ذلك الإنجليزية والسويدية والإسبانية.
p انطلاقا من الوضع اللساني المغاربي المعقد، إنكم تسهبون في التعددية اللغوية، هل لهذا السبب، تنصب جهودكم، بوصفكم كاتبا، على الأسلوب؟
n أولا، أحس بأن ثمة جُمَاعا متينا، يجتمع فيه ما أكتبه، ارتكازا على ما أعرفه كلغة للكتابة، أي اللغة الفرنسية. فأنا شخصيا أحاول أن أزرع اللسان في النقط الحساسة في الحياة، والتاريخ، والزمن المعيش، وإيقاع الجسد. وهذا ما أسميه الأسلوب. إنه نبرة الصوت، بين قوسين، لهذا السبب، أظل مهتما بالمذياع كثيرا. إن الأسلوب هو نبرة الصوت، وقد انزرعت في الحياة، وهو أيضا وفرة من التركيب. فأنا مثلا، كتبت كتابا بكامله، وأنا أستمع إلى موسيقى الجاز. إن بناء الأسلوب في تقديري، هو حركة التركيب. وهكذا نحس بالحياة تدب، والانفعال، وكل الأشياء المتحولة، مترجمة في الصوت، والجسد، لكل ما يقال، في الطبيعة والأشياء التي تؤثر فينا. كل هذا تتم تصفيته، شيئا فشيئا، عبر اشتغال داخلي، شخصنة للعالم.فهذا العالم المصغر، المرهف الإحساس، هو أول مترجم، وأول عنصر في الكتابة.
p هل ثمة، مع ذلك، في هذه الرؤية للاشتغال على اللغة، قطيعة وتمزق، وربما شعور بالذنب إزاء لغتكم الأصلية؟
n أنتم محقون في ذلك. هناك دائما صراع لا نكون واعين به. ثمة دوما شعور بالذنب يجثم علينا بثقله، أتيت على التذكير به. غير أني أريد، قبل العودة إلى مسألة الإحساس بالذنب، أن أحكي طرفة وقعت في طنجة. فقد سأل أحد الصحفيين صمويل بيكيت لماذا يكتب بالفرنسية، فأجابه:» لأني أحب جيدا أن أقول بخير، بخير ça va, ça va» ّ لست أدري هل جرت فعلا هذه المحادثة أم لا، غير أني أتمنى لو حدثت. أتذكر عبارة ل»بيكيت» يقول فيها: «الصمت لغتنا الأم». إذا، أجل، فالذنب دائما قائم هنا. لكن، بالضبط، فالهدف هو نظري وأدبي معا، في «عشق اللسانين»، وهو منفذ المتاهة بين الكلمات العربية والكلمات الفرنسية. وبناء لشكل. إن الأمر أبعد ما يكون عن المفرق بين لغتين، والشعور بالذنب.
هذا الكتاب هو أيضا تصفية حسابات، بما فيها حساباتي، التي تضايقني في هذا الإطار، أكثر منها صيغة للذنب ليست في مكانها [المناسب]. فهذه اللغة اكتسبتها مبكرا في المدرسة، وأحبها بوصفها لغة، وهي لغتي في الفكر والكتابة. وليس لي سوى أن أتبناها كما هي. علي بتدبير هذا الجُمَاعِ بيني وبين نفسي، عبر لغتي الخاصة في الكتابة والفكر. لكن من الواضح أن ذلك يترك دوما آثاره.
إن الشعور بالذنب، ليس أمرا أساسيا، لأننا نعيشه بطريقة أو بأخرى، في علاقتنا بقانون الأب، لكن الأهم هو معرفة ما نفعل بما يعتمل في الذات. إذا كان الأدب يعنى ببناء الشكل، فهو انفتاح على الآخر. فما يهمني هو البناء وإبداع القارئ، إبداع القارئ للتحاور معه، فهذا ما يسعى إليه كل كاتب في العالم. لقد حددت لنفسي هدفا حاسما، يتوجه إلى الآخر، بوصفه كذلك، ومخزوني الحساس، والتاريخي، ومنجزي في اختياراتي، ومعاناتي، كل ذلك تقوم الكتابة بتحويله. وفي هذا الإطار، أطلقت مفهوما تردد هنا وهناك، وهو مفهوم الغريب المحترف، ذلك الذي يجتاز حدود اللغات، مشتغلا على اللغة التي اختارها. الغريب المحترف لا يتحمل ذنبه ولا برانيته، ولا ثقل بلده أو ثقل الآخرين، فهو يجتاز، باهتمام، نقط العبور والممانعة بين اللغات، والبلدان، والحضارات.