تزويج الطفلات: اغتصاب على سرير القانون

مصطفى العراقي

 

يشهد المغرب ومنذ أشهر نقاشا وطنيا يتعلق بمدونة الأسرة. النص القانوني الذي عمره عقدان من الزمن بعد أن حل محل «مدونة الأحوال الشخصية «التي عمرت حوالي نصف قرن …
يستند هذا النقاش على ما أعلن عنه جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2022 أنه «يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة (تجربة مدونة الاسرة) ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك».
وعلى ما خلصت إليه المنظمات الحقوقية وضمنها الحركة النسائية من ملاحظات وضعت أصبعها على الاختلالات التي تعتري المدونة.
اليوم هناك مبادرات أغنت هذا النقاش وأبرزها الندوات التي قامت بها منظمة النساء الاتحاديات وكذا اليوم الدراسي الذي يعتزم الفريق الاشتراكي بمجلس النواب تنظيمه يوم الأربعاء ثالث ماي الجاري واتجذ له موضوعا :» مراجعة شاملة لمدونة الاسرة : نحو تعزيز الحقوق والمساواة بالمجتمع».
مراجعة شاملة؟ نعم لأن تعديل المدونة لا يجب أن يقتصر على إجراء تعديل مواد .بل هي إن نسقها بحاجة إلى إعادة النظر في هندسته ومضمونه تأخذ بعين الاعتبار الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب من جهة ومن جهة ثانية أن ينسجم مع روح دستور 2011. وثالثا الاستناد الى خلاصات النقاش الوطني والذي انخرطت فيه مؤسسات دستورية من بينها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الوطني لحقوق الانسان .
ومن بين القضايا التي تعد من أولويات المراجعة الشاملة : تويج الطفلات .
تزويج الطفلات (وليس زواج القاصرات) وهي ظاهرة مستفحلة بمجتمعنا المغربي. ظاهرة تتعارض مع شرعة حقوق الطفل وتحرم الاطفال من أجمل جزء في مرحلة طفولتهم.
في البداية لابد من الإشارة إلى أن النضال ضد ظاهرة تزويج الطفلات مر في مستواه الدولي بمحطات عدة عكستها النقاشات التي شهدها اعداد المواثيق والاتفاقيات الدولية وما تمخض عنها من مواد وفصول ذات العلاقة بها.
فحسب منظمة «أنقذوا الأطفال» وهي منظمة دولية غير حكومية، في كل سبع ثوان من زمن العالم تُرغَم فتاة يبلغُ سنها أقلّ من 15 سنة على الزّواج، كما أنّ أكثر مِنْ مليون فتاة يُصبحْنَ أمّهات قبل هذه السّنّ.
في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (16 دجنبر 1966) أن ينعقد الزواج برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء لا إكراه فيه.
وورد في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (18 دجنبر 1979) أن على الدول الأطراف اتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات العائلية، وبوجه خاص تضمن، على أساس المساواة بين الرجل والمرأة: (أ) نفس الحق في عقد الزواج، (ب) نفس الحق في حرية اختيار الزوج، وفى عدم عقد الزواج إلا برضاها الحر الكامل.
وتوج هذا المسار باتفاقية حقوق الطفل (20 نونبر 1989) التي اعتبرت في مادتها الأولى أن الطفل كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه. وألزمت الدول الأطراف باتخاذ جميع التدابير الفعالة والملائمة بهدف إلغاء الممارسات التقليدية الضارة بصحة الأطفال، وحمايتهم من جميع أشكال الاستغلال والانتهاك الجنسي ..
في المغرب وطيلة قرون كان الزواج شأن عائلي يختار فيه الأب أو عميد الأسرة على العموم الزوج أو الزوجة لأبنائه في الغالب لاعتبارات ليس من أولوياتها السن. واستمر هذا الوضع حتى في عهد الحماية والتي لم يكن الزواج أحد مجالات اهتماماتها التشريعية ..
بعد الحماية كان هناك أول نص قانوني تطرق للزواج بالمغرب هو مدونة الأحوال الشخصية التي صدرت في نونبر 1957 وتضمن كتابها الأول:» تكمل أهلية النكاح في الفتى بتمام الثامنة عشرة …وفي الفتاة بتمام الخامسة عشرة من العمر (الفصل الثامن)». وأن «الزواج دون سن الرشد القانوني متوقف على موافقة الولي. فإن امتنع عن الموافقة وتمسك كل برغبته رفع الأمر الى القاضي (الفصل التاسع)».
وإن كانت هذه المدونة قد كرست ظلما اجتماعيا بالفتاة فإن هذا الظلم تضاعف بالصمت المطبق تجاه زيجات بالآلاف لطفلات دون سن الخامسة عشر …مما خلف مآسي ظاهرة أحيانا وباطنة أحايين كثيرة.
لم يوضع موضوع تزويج الطفلات على جدول النقاش العمومي إلا في عقد الثمانينات من طرف جمعيات وتنظيمات نسائية لبعض الأحزاب الوطنية. واستهدفت المطالب من بين ما استهدفته مدونة الأحوال الشخصية وأثمر نضالها تعديلات طالت بعض فصولها في شتنبر سنة 1993:
لا يتم الزواج إلا برضى الزوجة وموافقتها وتوقيعها على ملخص عقد الزواج لدى عدلين، ولا يملك الولي الإجبار في جميع الحالات …
نسخة من إذن القاضي بزواج من لم يبلغ سن الزواج…
وبالرغم من ذلك استمرت مياه الزواج المبكر تمر من بين أصابع القانون وظلت مناطق بأكملها في المغرب العميق تقدم بناتها لزواج لا يراعي السن ولا فارق السن…خاصة وأن العادات والتقاليد والبعد الاقتصادي حاضرون بظلالهم على عقد الزواج أو…الفاتحة التي تتلخص في قراءة هذه السورة دون انجاز عقد مكتوب. أو ما أضحى يسمى ب»زواج الكونترا».
لم توقف تعديلات مدونة الأحوال الشخصية عملية التزويج هاته. فكان على الجمعيات النسائية والمنظمات الحقوقية أن تكثف من ترافعها وإبراز سلبيات تقديم طفلات على طبق من استغلال جنسي على صحتهن ونفسيتهن ومستقبلهن. وبعد عقد من الزمن أثمر هذا النضال «مدونة الأسرة» التي صدرت في فبراير 2004 وشكلت مكسبا في العديد من مقتضياتها لكن بعد فصولها وخاصة المتعلقة بهذا الزواج كانت مرنة تحمل معها ثغرات أبدع المتحايلون على استغلالها.
حددت المدونة سن الزواج بالنسبة للفتى والفتاة في 18 سنة شمسية، ولم تسمح بإبرام زواج من لم يبلغ هذه السن إلا استثناء ووفق ضوابط خاصة، تشترط صدور إذن قضائي معلل بذلك. إذ نصت المادة 20 على أن « لقاضي الأسرة المكلف بالزواج، أن يأذن بزواج الفتى والفتاة دون سن الأهلية المنصوص عليه في المادة 19 (تكتمل أهلية الزواج بإتمام الفتى والفتاة المتمتعين بقواهما العقلية ثمان عشرة سنة شمسية) بمقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي والاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي.
مقرر الاستجابة لطلب الإذن بزواج القاصر غير قابل لأي طعن».
والمادة 21 على أن «زواج القاصر متوقف على موافقة نائبه الشرعي؛
تتم موافقة النائب الشرعي بتوقيعه مع القاصر على طلب الإذن بالزواج وحضوره إبرام العقد؛
إذا امتنع النائب الشرعي للقاصر عن الموافقة بت قاضي الأسرة المكلف بالزواج في الموضوع».
ومن ثغرات المدونة ومرونة فصولها تزوجت نصف مليون طفلة قاصر تقريبا ..وكانت سنة 2011 هي التي شهدت أكبر عدد من رسوم الزواج بما مجموعه 39031 وهو ما مثل 11.99 بالمائة من رسوم الزواج المبرمة تلك السنة .وهي إحصائيات لا تعبر عن الحقيقة لأنها لا تشمل زواج الفاتحة وزواج الكونترا..
اليوم بعد عقدين من صدور مدونة الأسرة لا بد من المراجعة الشاملة لمدونة الأسرة لوقف هذا الزواج الذي يعد اغتصابا مقنعا وتدميرا لحاضر ومستقبل طفولة عليها أن تعيش طفولتها وتستكمل تعليمها …وأرقام الطلاق تؤكد أن هذا النوع من الزواج ينتج مآسي ويغدي ظواهر …
في دجنبر الماضي قدم المجلس الوطني لحقوق الإنسان دراسة أنجزها بشراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان بالمغرب اعتبر فيها بان تزويج الطفلات ظاهرة مركبة وأن القوانين وحدها لا تكفي للحد منها .. وفي سنة 2019 أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي رأيا استشاريا تحت عنوان:
«ما العمل أمامَ اسْتمرار تزويج الطّفْلات بالمغرب؟». من بين التوصيات الواردة فيه:
اعتماد عبارة «تزويج الأطفال» بدلاً من زواج القاصر أو الزواج المبكر، من أجل رفْع كلّ أشكال الغموض المتصلة بالتّأويلات والتصورات الفردية حول تحديد مَنْ هُو الطفل، لإّن القانون المغربي
واضح في هذا الصدد، حيث يعتبر أنّ الطفل المغربي هو كل شخص، أنثى أو ذكر، دون سن 18،
وبالتالي فهو قاصر بموجب القانون؛
تسريع المسلسل الذي بدأ بالفعل والمتعلّق بالقضاء على تزْويجِ الأطفال، والطفلات خاصة، وذلك لصالح التنمية السوسيو-اقتصادية للبلاد؛
اعتماد استراتيجية شُموليّة تهدفُ، في المستقبل المنظور، إلى القضاء على الممارسَة المتعلقة
بتزويج الأطفال( الشّرعي وغير الموثق)؛
ملاءمة أحكام مدونة الأسرة مع الدستور واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل والاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص في وضعيّة إعاقة؛ مما يعني،
من ناحية، الأخذ في الاعتبار «مصالح الطفل الفضلى، والحاجة إلى توفير حماية خاصة للأشخاص في وضعية إعاقة، من ناحية أخرى؛
حصر تطبيق المادة 16 على زواج البالغين؛
المنْع الصريح، في مدوّنة الأسرة، لجميع أشكال التمييز ضدّ الأطفال، انسجاماً مع المادة 19 من
الدستور؛
التنصيص في مدونة الأسرة على الوجود القانوني ل «مصلحة الطفل الفضلى» مع تعريف هذا المبدأ
وتحديد مجال تطبيقه؛
المعاقبة الشديدة لكلّ أشكال الضغط على الطفل أو تضْليله أو خداعه للحُصُول على موافقته على الزواج.
في يناير 2021 قدمت المجموعة النيابية لحزب التقدم والاشتراكية بمجلس النواب مقترح قانون يرمي الى وضع حد لظاهرة تزويج الطفلات يقضي بنسخ المواد 20 و21 و22 من مدونة الأسرة، والتي تسمح بتزويج الفتيات دون سن 18 سنة، في بعض الحالات الاستثنائية.
وتنص المادة 21 من مدونة الأسرة على أن «زواج القاصر متوقف على موافقة نائبه الشرعي وتتم موافقة النائب الشرعي بتوقيعه مع القاصر على طلب الإذن بالزواج وحضوره إبرام العقد»، و»إذا امتنع النائب الشرعي للقاصر عن الموافقة بت قاضي الأسرة المكلف بالزواج في الموضوع».
كما تنص المادة 22 على أنه: «يكتسب المتزوجان طبقا للمادة 20 أعلاه، الأهلية المدنية في ممارسة حق التقاضي في كل ما يتعلق بآثار عقد الزواج من حقوق والتزامات» و»يمكن للمحكمة بطلب من أحد الزوجين أو نائبه الشرعي، أن تحدد التكاليف المالية للزوج المعني وطريقة أدائها».
وتشكل هذه المواد الاستثناء الذي يخول لقاضي الأسرة المكلف بالزواج أن يأذن بزواج الفتى والفتاة دون سن الأهلية، وعدم التقيد بالقاعدة الأولية المتعلقة بشرط الأهلية المنصوص عليها في المادة 19 من المدونة.
إن أبرز حماية يجب إيلاؤها للطفل هي الحماية القضائية . وأن تكون روح النص القانوني الذي يستند عليه القضاء تتمحور حول المصلحة الفضلى للطفل ..لا أن نضع قانونا تشكل مواده بفعل تحايل أو تأويلات؛ أسرة لاغتصاب مقنع يتسع سنة بعد سنة.

الكاتب : مصطفى العراقي - بتاريخ : 02/05/2023