«الموتشو» لحسن أوريد: عوالم ملتبسة

 

يواصل الأستاذ حسن أوريد إصدار انتاجاته الأدبية، إلى جانب مساهماته الفكرية وحضوره الوازن على مستوى الاعلام والمنتديات المختلفة، وهو بذلك يحقق تفاعلا مع ما تقتضيه المرحلة من حاجة لتوسيع الحوار الفكري عبر مختلف الصيغ الإبداعية، وكل ما يسمح بالتواصل وتوسيع دائرة النقاش.
هذا ما يجعل اللافت في كتاباته الروائية، اعتماد فضاءاتها عوالم تفسح المجال لنقاش قضايا تربط الوقائع بسياقها التاريخي وشروط تحديد مقوماتها أو ما يشكل خلفية لما يعتمل المعاش من إشكالات يستحيل تجاوزها دون استيعاب عناصر مسبباتها. فالحكي بما يصوغ من تفاصيل يفسح المجال لملامسة قضايا وتقابل وجهات النظر بما يفضي إلى التطابق أو الاختلاف.
في روايته الأخيرة « الموتشو» الصادرة عن دار المتوسط في طبعتها الثانية، يتضح السعي إلى وضع القارئ في قلب النقاش المتعدد الجوانب حول إشكال العلاقة المتوترة بين المرء ومحيطه. وما يعتمل المجتمع من تجاذب في تباين الآراء بخصوص قضايا الهوية والانتماء العرقي والديني. عوالم تبرز أكثر من إشكال مجتمعي تتسع وتضيق هوامش الاختلاف في تداول معطياته. أمين الصحفي اللامع يجد نفسه في منبر إعلامي لا يلائم خطه التحريري قناعاته السياسية ومواقفه المبدئية.تباين في الاختيارات جعله يتجنب ما قد يثيره من اصطدام مباشر مع رئاسة التحرير ومالكي الجريدة، أو كل ما قد يحرمه من مصدر عيشه واستقراره المادي. كل تفاصيل حياته تكشف عدم رضاه عن مسار حياة لا يجد في ثناياه غير وشائج علاقة تشده لصديق طريح الفراش يصارع موتا يتربص به وأطال إقامته بالمستشفى. يغادر أمين الجريدة. لم تعد تغويه الصحافة بما هي أحوال منابرها التي تاهت عن الحقيقة واستكانت لمصالح أربابها. هكذا يضع حدا لعمله الصحفي ويبقي على صلته بالدارالبيضاء لوجود صديقه تحت العناية المركزة والمراقبة الطبية الصارمة. تسوقه زياراته المتكررة للمستشفى إلى التعرف على الطبيبة المعالجة لصديقه، تتوطد الروابط بينهما ويصيرا عاشقين بعد أن اكتشفا أن شيئا يجعلهما قريبين من بعضهما البعض على الرغم من كل ما كان يوحي بأن البون شاسع بينهما. نعيمة محجبة ولا تمد يدها لمصافحة الرجال. تحرص على أن تؤدي مهمتها بكل مهنية واستقامة. يخطب ودها وتستجيب لإشاراته.
بالعمارة حيث يقطن بمدينة الرباط، سيتعرف على يهودية إسرائيلية المنزع والهوى،تفتخر بانتمائها بما تعتبره وطنا لها وتعتز بانخراطها في قواته المسلحة والمساهمة في غزواته. صارت عوالم أمين الكوهن محصورة بين بيته وزياراته للمستشفى. اختلفت دواعي تدبير لحظات أيامه عما كانت عليه. أحب نعيمة الطبيبة المعالجة بالمستشفى واستهوى الحديث مع إستير الجارة التي تقتحم عليه خلوته من حين لآخر في شقته، يطيب له الحديث حين يجادلها حول إسرائيل ويتأمل دفاعها عن الحق في الأرض وشرعية الاستيطان. زياراته المتوالية للمستشفى أكسبته ود نعيمة، التي تجاوزت كل عوائدها لتصير خليلة تبادله كل مشاعر المودة والإعجاب. لم يقو بنيس على مواصلة الصمود في سقم شل كل حركته وأفقدته صلاته بالوجود. كان لوفاته وقع كبير على أمين، يستعيد بحرقة لحظات البوح التي كان الفقيد يخصه بها.
توطدت الأواصر بين أمين ونعيمة، واقتربا أكثر من إستير، التي أمنته على أسرارها بعد أن أحست أنه يدمر حسا يهوديا، يعود لأصوله قبل أن يعتنق أجداده الإسلام. فهما معا يحملان نفس اللقب ينحدران من عائلة الكوهن الكبيرة التي فرقت السبل بين أبنائها، وتعددت مواقع وجودها. في إسرائيل كما في المغرب تعتز استير بأصول أجدادها، وأنها يهودية مغربية قبل أن تكون مواطنة إسرائيلية. أعجب أمين بالصيغة في تحديدها لهويتها، وانتبه إلى ما يمكن ان يكون عليه هو أيضا. فاسمه يحيل على أصله اليهودي ويحمل في سلوكه العام، كما حاولت إستير اقناعه به، تمثلا للروح اليهودية وإن كان يعتنق الإسلام. فأصوله تنعكس في كيفية تدبير يومه وتكوين علاقاته. لم يكن أمين يعير اهتماما كبيرا لما ذهبت إليه إستير بخصوص تجذر اليهودية في جينات كل من كانت أصوله كذلك. غير أن اهتمامه بالموضوع أصبح يحتل حيزا من تفكيره، يستحضر حواراته مع بنيس الذي أطلعه على جزء من تجربته واهتمامه بقضايا الصراع العربي الإسرائيلي، وزواجه هو أيضا من يهودية اختارت الارتباط به مقابل فك ارتباطاتها العائلية. لم تكتمل محاولة توثيق التجربة السياسية والمجتمعية للسيد بنيس، كما كان مأمولا واحتفظ أمين بصخب اللقاءات وما اكتسبه من قناعة بمسار رجل شجاع شديد الارتباط بالقضايا العربية وخاصة قضية الشعب الفلسطيني. ما بين حواراته مع استير وجلساته مع بنيس، بدأ أمين يأخذ مسافة مع جملة مما كان يعتقد أنه الحقيقة، التي أسس عليها مواقفه المبدئية وخلاصاته السياسية. لم تعد القضية الفلسطينية في تقديره واجهة صراع بين الوجود العربي والاستعمار الاستيطاني، بل أضحت مسألة إيجاد صيغة للتعايش الفلسطيني الإسرائيلي، وأن لليهود الحق كما للديانات الأخرى في العيش وفق ما يسمح به الوجود المشترك في ذات الأرض.اكتملت الفكرة في ذهنه فوجد نفسه يلقي محاضرة في تل أبيب بدعوة من معهد إسرائيلي، حيث استقبل بحفاوة بالغة وقدم ما يراه في عرض مستفيض حول تصوره للنزاع واختياراته في دعم حق الدولة الإسرائيلية في الوجود.في زيارته تلك التقى إسرائيلية رافقته كمرشدة ومسؤولة على ترتيب شؤون زيارته. راودته فكرة الاقتران بها والإقامة الدائمة بإسرائيل.
هكذا يستعيد أمين روحه اليهودية، وفي ذلك بعض من تعلقه بنعيمة الطبيبة التي ألهمته في أول لقاء عند زيارته لصديقه بنيس. نعيمة هي أيضا من أصول يهودية، فوالدتها اختارت الإسلام عربونا لحبها الكبير لزوجها الضابط بالجيش الملكي. وفكت الارتباط مع الأسرة التي هاجرت بالكامل إلى إسرائيل. في زيارة لسياح إسرائيليين لضريح لحاخام بالأطلس المتوسط ستلتقي نعيمة مع أحد أقارب والدتها لتقرر ترتيب لقاء لها مع أسرتها بباريس، تحضر الجدة والأخوال لإعادة العلاقات الأسرية التي انقطعت بسبب زواج كانت شروطه مؤلمة.
يستعيد أمين كل تفاصيل حكاية نعيمة وفرحتها الكبيرة باستعادة علاقاته لجذورها اليهودية، ثم قرارها في وضع حد لعلاقتهما والسفر إلى إسرائيل. ظل واجما يستعيد صورا من كل مراحل حياته، يتحسس روحه اليهودية، يصله صوت والدته المثقل بعتاب شديد على زيارته لإسرائيل . سيعود أمين إلى فاس، يغادر شقته بالرباط بعد أن تخلص من أثاثها وسلم مفتاحها لحارس العمارة.
عودة أمين إلى بيت العائلة بفاس في نهاية الحكاية، اختيار أم هزيمة؟ إحباط لتحقيق حلم أم استعادة الوعي بالتمييز بين اليهودية والصهيونية؟ تخلت نعيمة عن أمين من أجل تجديد ارتباطها بأصولها اليهودية، غيرت اسمها وتزوجت على الطريقة اليهودية لتقيم بإسرائيل. تلك رغبة ظلت تخفيها بمظاهر العفة وما تبديه من التزام بما تدعيه لحفظ الكرامة وفرض الوقار.عاد أمين محبطا إلى عوالمه وظل السؤال يراوح مكانه. ما علاقة الأصول اليهودية لبعض المغاربة والوقوف على نفس الجبهة مع إسرائيل، الدولة الغاصبة المضطهدة لبشر يختلفون في اختياراتهم وخصوصيتهم التاريخية.
فعلا الرواية تضع القارئ امام إشكال يقيس مقدار القناعة بالموقف من اليهودية كدين وهوية، وإسرائيل كجنوح صهيوني لا يستقيم إلا بنبذ الآخر وطمس كل معالم أحقيته في الوجود.


الكاتب : أحمد حبشي

  

بتاريخ : 02/05/2023