تماسيح أندرياس نيومان

رائحة الضوء الأزرق

أخاطر الآن بكل شيء من أجل الوصول باكراً إلى رائحتها الحارقة. لا مناص من الاعتراف، أولا، بأنها جعلتني أعود حقا من بعيد حين التمعت عيناها الحياديتان أمامي. رأيت زوار الحديقة يأتون أفواجا. يحدثون ضجة كبيرة، يتدافعون على السياج وأنا أنزف على طرف الحوض المائي، لا أقوى على الصراخ، كأنني بلا فم. كان من المفترض أن تأكلني بالكامل، لكنها رفضت الإمعان في أدائها الافتراسي. اكتفت بابتلاع ساق واحدة قبل أن تنزل إلى الماء.
بضع ثوان كانت كافية لأنتبه إلى أنني لا شيء، مجرد فريسة مهددة بالانقراض بأسرع ما يمكن. لم أبذل أي جهد لأقاوم. تلبدتُ بالخوف وتعرَّقت. حملقتُ في التمساحة دون هدف واضح. كنت قد استسلمت تماما. ما أنا سوى إرث غريزي يعود إلى زمن سحيق. لست عدوا لها. مجرد فريسة جاهزة لمنح جائزة اقتدار للفكوك التي انعرست في الساق. الزوار يدقون السياج. يتشابك الصراخ وأنا أتدحرج عبر الدماء المتجمدة في الحلق. يهرع حارس الأمن بمزاج حاد حاملا مسدسه، ينظر حوله ليتأكد بالفعل أن الحيوان لن يستأذنه في الانصراف. أنظر إليها وتنظر إلي، كأنها تصغي إلى شيء لا أسمعه، أو ترى ما لا أراه. وببطء كبير، غمزت لي وتراجعت خطوتين. لم يجرؤ الحارس على إطلاق الرصاص. اكتفى بالاقتراب مني بحذر بينما كانت تنزل إلى الماء وتغيب في عمق الحوض.
انتابني ضوء أزرق ضبابي، وامتلأت رئتي برائحة عميقة الجذور شعرت بها تُخْلَقُ داخلي، حد الإغماء. تهزني وتنزلق بي نحو شيء لا أدركه، أنهض فيه دون أن أمسه. لم تكن رائحة ساقي التي أُكِلَتْ بأقل تكلفة، ولا رائحة صرخات الزوار التي تبخرت مثل دعاية فاشلة للحياة. كانت رائحتها التي غاصت بي أعمق وأعمق نحو المعنى الحقيقي لـ»البروتيز».

لسان الخمول الطائش:

منذ اللحظة التي سمعته ينطق باسمي، تغير كل شيء. التمساح لا يستطيع إخراج لسانه من بين فكيه. هذا ما أعرفه، كما أعرف أن التمساح لا يتكلم. يطن ويصر ويشخر ويخرشق ويهمهم وينخر، لكن لسانه لا يلامس سقف حلقه. لسان ثابت ومثير للشك، بلون أرجواني يميل نحو الأبيض، لا يذهب مطلقا إلى الحرب.
بدا اسمي غريبا على لسانه. تحولت السين إلى زاي، والعين إلى هاء، وظلت الدال على حالها. احتدت قليلا وخمدت، بينما احتك الحرفان الآخران، وتبادلا المخارج ذهابا وإيابا. هل نطق باسمي حقا؟ أصخت وانتظرت أن يعيد الكَرَّة، غير أن وجم وأغمض عينيه بشيء من المرح والخمول، كأنه يمازحني، فانصرفت عنه كأني لم أسمع.
مرت دقائق قبل أن أهتز في مكاني. سمعت اسمي مرة أخرى، حاراً مُنغَّما. قعقعت معدتي ورفت أشفاري. لا يوجد أحد غيرنا في هذا المكان. هل فعلها للتو؟ نظرت إليه بسرعه، فوجدته ساكنا في مكانه على نحو مثالي، وعلى ظهره ضفدع من نوع بيدوفرين. أيمكن أن يكون الضفدع هو الناطق؟ على الأقل، للضفدع لسان يصل إلى قلبه، وبوسعه أن ينتهك كل القوانين المتعلقة بالطبيعة. ألا يُقال إن البشر كانوا مجرد ضفادع شرغفية، ثم بفعل نار تنبت في ماء لا يستطيعه الشاربُ انقدحوا طويلا قبل أن يتصافوا ويتوافوا ويترافعوا ويتكيفوا وتتفلطح أقدامهم، صاروا جاهزين للسير وقوفا على اليابسة، فغيروا أنسجتهم وطباعهم، وساحوا في كل اتجاه؟
لم أقتنع. انتظرت أن يفتح التمساح فمه قائلا: «أنا فعلتها!»، لكنه اكتفى بفتح عينه اليسرى، متعمدا عصر بطنه على الأرض. هل يريد إغاظتي؟
لسوء الحظ، لا أستطيع الدنو منه. هذا تمساح متكلم وساخر وعابث وطائش، ولا بد أن وراءه حكاية على صلة غامضة باسمي. شعرت بنفسي وحيدا بما يكفي، وأن هدا الاسم الذي أحمله ليس اسمي حقا. ومع ذلك، دنوت قليلا وصرخت «سعييييييد». لم يتحرك. اهتز الضفدع الصغير وارتعش ثم اختفى.. واختفيت في ما تخفيه حبكة هذه القصة الخاملة.

نرجسية بمعنويات عالية

فتحتُ غطاء العلبة، وعددتها ببطء. خمسة تماسيح رقطاء صغيرة، متوافقة مع بعضها حجما وشكلا، اشتريتها بسعر زهيد لا يتجاوز خمسين درهما للتمساح الواحد. الغريب أنها كانت كلها بدون ذيول، وعلى وجوهها مادة خضراء لزجة.
حين رأيتها أول مرة، في شريط فيديو على المنصة الإلكترونية التابعة لشركة «كروكوكامبودج» العالمية، كانت سليمة. لها ذيول مدبوغة ولامعة، وعلى ظهورها تكتظ بقعٌ سوداءُ وبنيةٌ مائعةٌ. بدت على الشريط بمعنويات عالية، تقفز وتنزلق، ويركب بعضها بعضا بخفة وفي غير اتساق. منظر لجمال أصيل وهائل يمكن أن تهرب منه من أي منغصات طارئة. استمعت بإمعان إلى الصوت الخارجي المرافق للشريط يقول:
«ذيول تماسيح طرية للبيع، تؤكل مطبوخة على الريق، ويُستحسن أن تُمزج بالعسل والثوم قبل ساعة كاملة من تناولها»!
قلت لنفسي إن هذا إعلان بذيء، ولا بد أن مدير الشركة جاهل ليعرض مثل هذه المخلوقات الصغيرة للبيع على هذا النحو الكارثي، ولم أشعر إلا وأنا أكتب بنوع من الغرور الزائد رسائل متتالية إلى الشركة:
الرسالة الأولى: «مرحبا السيد مدير المبيعات بشركة «كروكوكامبودج». رجاء، إذا كانت تتوفر لديكم تماسيح للعناية المنزلية، أريد خمسة؟».
الرسالة الثانية: «لا أريدها على مائدة العشاء !».
الرسالة الثالثة: «لا أريد أي تركيز حصري على استعمالات الطبخ أو أي شيء آخر من هذا القبيل».
الرسالة الرابعة: «لا أريد أي تماسيح مُشفًّرَة تحتاج إلى ضبط إعداداتها التمثيلية للتعامل معها..».
الرسالة الخامسة: «المرجو إرسال تماسيح تتغذى على البسكويت المملح فقط، ويفضل أن تكون محبة لموسيقى الجاز، ولا بأس إذا كانت تجيد الرقص النقري».
بعد دقائق، جاء الرد: «لدينا المطلوب، استعمل بطاقة الائتمان للدفع، يصلك الطرد في غضون أسبوع».
وبعد أسبوع، ها أنا أترك كل شيء وأركز اهتمامي كله على الذيول الغائبة. دخلت في حالة اشتباه أنني ربما متورط في هذا الجرم دون أن أدري، وأن موظفا تابعا لقسم الجزارة بالشركة هو الذي قام ببتر الذيول، ربما لجعلها ترقص أو لترويضها على أكل البسكويت المملح عوض رؤوس الدجاج أو مزق لحم الجاموس النيء، أو فقط لأن زبونا آخر، في مكان ما من الأرض، طلب ذيولا تمساحية ليقدمها طبقا مميزا لضيوفه.
ماذا بإمكاني أن أفعل بتماسيح بائسة ودون ذيول؟ شعرت بأن مكبرا للصوت يلقي البيض الفاسد في رأسي. أغلقت الغطاء بسرعة، وتراجعت إلى الوراء مطقطقا أصابعي العشرة. تذكرت بأن الولع بالتماسيح لن يصنع لها ذيولا، وأن الذيول مجرد أدوات نرجسية خادعة..

1. مكتوب من نوع موريليت

رمى لفافة الورق تحت طاولتي ومرق بسرعة من الباب.
كنا وحيدين بالمقهى. يكتب ويسعل باحتشام. أهتز في مكاني كأنني أنا الساعل، وأتابع اهتزازات أصابعه في منحنيات الورقة التي يكتب عليها بتوتر ظاهر. يسعل ويكتب ويدخن. أهتز بقلة حيلة وأراقب بنفاذ صبر. يسعل بقوة، فأتساءل إن كان يجد ربي أن أغادر قبل أن ينتهي من عمله. يسعل بارتجاج، فأغتاظ، وأركن غيظي بين قدميَّ المتقاطعتين تحت الطاولة.
نهض من مكانه بوجه خال من التعابير. انحنى على الطاولة وجمع كل أوراقه في حقيبة ظهر رمادية، إلا ورقة واحدة كمّشها بين يديه بتوتر زائد، كأنه يريد أن يخفي شيئا. نظرت إليه بقلق، وحاولت أن أشغل نفسي بمزهرية زرقاء رفيعة ذات عنق طويل تزين يسار المشرب. بحثت بعينيّ عن النادل. لا وجود لأي أحد. “أستطيع أن أغادر الآن بسرعة”، قلت لنفسي. سمعته يقول لها بوضوح تام: “لم يحن الوقت بعد!”، فالتصقت بالكرسي مبتلعا لساني، وتابعت استراق النظر إلى ظلال تتشابك على الجدران دون أن أرى أصحابها.
ألقى الحقيبة على ظهره، ومشى بضع خطوات حتى اقترب من طاولتي. لم يقل شيئا على الإطلاق. لم أرفع رأسي نحوه، كأنني مأخوذ بشيء بعيد لا أقوى على صده.
رمى الورقة تحت الطاولة، ومضى مسرعا حدّ أن كزَّ البلاط كتوما كأنه انجرح بشكل حاد تحت حذائه. وكان الرجل قد مضى كلمح البصر حين انحنيت لألتقطها. شعرت بها ثقيلة. تعرّقت وتسارعت دقات قلبي وأنا أضعها أمامي. لا أحد هنا. لا نادل، ولا زبائن. أفردتها ببطء، فإذا بها تنفخ دخانها المتطاير في وجهي. تتداخل الحروف وتتخبَّل وتستوي تمساحا صغيرا من نوع موريليت. الغريب أنني لم أصرخ أو يغشي عليّ، ولم أشعر بأي ارتجاف في صدري، كأنني أعرفه منذ زمن طويل. عقد حاجبيه باستغراب، ونظر إلي نظرة فارغة، قبل أن يقول:
– ألا تعتقد بأني من حقي أن أقلق عليك. لقد جننت بالفعل !

1. نفوق بجرعة زائدة

خوفي من التماسيح ليس حالة دائمة، ولا يتطلب كل هذا الفزع. لا تستغرب ما وقع لي حين رأيتك هذا الصباح تلطخ ظهر ذلك التمساح ببقع سوداء وصفراء. تعرف أنني سريع الإغماء. حدث معي ذلك مرات متكررة. يُغمى عليَّ أحيانا دون سبب، أحيانا لا أخاف منها. لا أتذكر إطلاقا أنني خفت منها، ولكني أعتقد مع ذلك أنني قد أخاف منها دون أي سبب واضح. خوفي عشوائي، وما يميزه هو أنه يظهر فجأة بعينين ضاحكتين مملوءتين بدخان لامع. يتسلل هذا الدخان ببطء من رأسي إلى أطرافي، وما إن يستقر في بطني حتى يلتهم كل مخزون هدوئي الذي احتشدت به لأسابيع.
لا أعرف حقا ماذا دار في رأسك حين اقتربت منه غير عابئ، وبدأت تلطخ ظهره بالبقع وهو قابع بطريقة ما، ربما مثالية، قرب تجويف صخري، حانيا رأسه لا يتحرك، كأنه مخدر. لا بد أنه حُقِن بجرعة زائدة من البنج، وإلا لما تخليت عن حذرك واقتربت منه على ذلك النحو. تحركت صوبه، ولم يبد أي رد فعل. هل أنت متأكد من أنه حي يرزق؟ لم يمد رقبته ولم يفتح فكوكه على مصراعيها على عادة كل التماسيح حين تقترب منها فريسة محتملة.
ببساطة، وأقولها بكل صراحة، إغمائي كان خطأ كبيرا. هذا التمساح ليس تمساحا، أو على الأقل ليس تمساحا حيا، ولهذا ما كان علي أن أنتفخ بالخوف. الطريقة الهادئة التي كنت تطلي بها ظهره تثبت أنك واثق جدا من نفسك، وأنك بعيد بالقدر الممكن عن الخطر. لو لم يكن ميتا، لما تعاملت معه ككلب مدلل، بل لما حوّلته إلى لوحة فنية مبقعة بالأسود والأصفر. ماذا تحسب نفسك صانع به؟ يُخيَّل إلي أنك كنت تنوي أن تصنع منه فهدا بتقنية ارتجالية طامسة. التماسيح يا صاحبي ليست هي الفهود، حتى لو اعتمدت أسلوبا حرا ونادرا للغاية لتحقيق خلط بين الحيوانين. إيييه، أعرف أنك لا تفتقد إلى المعلومات الأساسية حول الفروقات بينهما، مثلما أنا متأكد تماما بأنك تريد فقط أن تثير الإعجاب. لكن إعجاب من؟ ليس هناك سوى أنا وأنت، والتمساح الذي يفتقر إلى أداء جسدي قوي وغير قابل للمساومة. ما نفع تمساح مشدود إلى عزلته الأرضية، علما أن الافتراس هو فرصته الأولى والأخيرة للكمال الحقيقي؟
سيكون من المجدي لو علقته وسلخته وبعت لحمه وجلده لمن يدفع أكثر، أو على لو تراجعت قليلا وتركته ينفق في البراري. كان هذا سيجعلك محترما أكثر من ذي قبل، لكنك فضلت أن تفزعني بتمساح ميت.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 05/05/2023