الراحل عبد الواحد الراضي يتحدث في مذكراته -40- الاتحاد الاشتراكي دعم الطبقة العاملة في الإضراب العام 1981

ودعنا المناضل الكبير عبد الواحد الراضي، رجُل الدولة الذي ترك بصمات في الحياة السياسية والجمعوية، حيث كان من الرعيل الأول داخل مؤسسة البرلمان، الوحيد الذي انْتُخب وأُعيدَ انتخابُه منذ أول برلمان مُنْتَخَب سنة 1963 إلى اليوم. وهو أحد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، الذي سيُصبح كاتبَه الأول سنة 2008. رافَقَ عدداً من زعماء الحركة الوطنية والديموقراطية بينهم بالخصوص المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد. كما لَعِبَ دوراً مؤثراً في صياغَةِ مشروع التناوب. وكفاعل ورَجُلِ دولةٍ، عُيِّنَ وزيراً أكثر من مرة في عَهْدَيْ الملِكَيْن الحسن الثاني ومحمد السادس. شَغَل منصب رئيس مجلس النواب لأكثر من عشر سنوات، وترأس عدداً من المنظمات والمؤسسات البرلمانية الأورومتوسطية والإسلامية والمغاربية، قبل أن يُنْتَخبَ سنة 2011 رئيساً للاتحاد البرلماني الدولي، وذلك في علاقاتٍ مواظِبَةٍ لم تَنْقَطِع مع نساء ورجال وشباب منطقته، سيدي سليمان، بصفته البرلمانية.
نعيد بعضا من سيرته الذاتية التي أنجزها الزميل والكاتب حسن نجمي بعنوان ” المغرب الذي عشته ” عَبْرَ سَرْدِ رَجُلٍ ملتزم، يحكي هذا الكِتَابُ تَاريخَ المَغْربِ وتحولاته منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى المصادقة على دستور 2011 مروراً بالأحداث الكبرى والصراعات والتوترات التي عَرفَها المغرب المعاصر، والدور المتميز الخاص الذي لعِبَهُ الرَّجُل، خصوصاً على مستوى ترتيب العلاقة والحوار بين الملك الراحل الحسن الثاني واليسار المغربي بقيادة الراحل عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي…

 

بالنسبة للاستفتاء الأول في 23 ماي، قَرَّر الحزب حرية التصويت للمناضلين حسب ضميرهم واقتناعهم، ذلك لأن هذه المسألة تهم بالأَساس العائلة الملكية. أما بالنسبة للاستفتاء الثاني في 30 ماي الخاص بالفصل 43 من الدستور الذي يهم المدة التشريعية للبرلمان التي كان يراد تمديدها من أربع إلى سِتِّ سنوات. بالنسبة لهذا الاستفتاء، فإن الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي لخَّصَ موقف الحزب بهذه الكلمات:‏ «‏لا يمكن القَبُول مطلقاً بالتمديد سنتين للتجربة الحالية التي طُبِعَتْ بتزوير كبير للإِرادة الشعبية‏»‏.‏ وبالتالي، فلم يكن أمام الاتحاد الاشتراكي من حلٍّ آخر سوى القرار بالمقاطعة.
وكانت هذه المناسبة سبباً للتوتر بين الحزب والسلطات الذي تصاعدت حِدَّتُه. ولكن اتِّقاد الأزمة سيتأجل بخصوص هذا الموضوع ومواضيع أخرى، إِلى صيف 1981.
الحكامة السيئة لمختلف المسؤولين الذين تعاقبوا دفعت حكومة المعطي بوعبيد من جانبها إِلى اتخاذ قرارات لاشعبية، وذلك برفع الأسعار لعدة مواد غذائية ومنتجات أَساسية في حياة المواطنين (الخبز، السكر، الزيت، الزبدة… الخ) من 50 إِلى 150%. وكان رد فعل الكونفدرالية الديمقراطية للشغل مدعومة من طرف الاتحاد الاشتراكي الذي لم يتأخر احتجاجاً على هذه الزيادات التي تبعث على الاندهاش، والتي تُعَاقِب وتُفْقِر أَكْثَر الطبقات المحرومة في المجتمع. كما أن النقابة الوطنية للتجار الصغار والمتوسطين بقيادة المرحوم مولاي عبد الله المستغفر دخلت على الخط النضالي، مما أعطى للحَدَث دفعة وصيتاً كبيرين، خصوصاً في الدار البيضاء.
وجمع الاتحاد الاشتراكي أجهزته الوطنية، داعياً المناضلين والمناضلات إِلى التعبئة والتعبير عن أقصى أشكال التضامن مع الطبقة العاملة في معركتها ونضالها المشروع، والدعوة بالخصوص للعمل على الانخراط في الإضراب العام وإنجاحه.
وسيَعْرِفُ النِّقابيون والمناضلون الاتحاديون، مرةً أخرى، مرارةَ الاعتقالات والمحاكمات والأَحكام القاسية. صخرة سيزيف الاتحادية تعود من جديد.
بخصوص الزيادات في الأسعار، اضطرت السلطات إِلى التراجع بحذفها في بعض الحالات، وسَحْبها في حَالاَتٍ أخرى. وإذا كانت هذه الزيادات قد تم تخفيضها، فإِن حملات القمع عَرفَتْ تصعيداً حقيقياً.
لقد كانت فرصة أخرى للسلطات لتوقد نار نزعتها الانتقامية من مُنَاضِلي الكونفدرالية ونقابة التجار الصغار ومن الاتحاديين بصفةٍ عامة.
كان البرلمان مجتمعاً، فَبَادَرْنا إِلى مساءلة الحكومة وبالأَخص الوزير الأول المعطي بوعبيد، ووزير المالية عبد الكامل الرغاي المسؤول المباشر عن الزيادات الكارثية، ووزير الداخلية إِدريس البصري المسؤول عن قمع المضربين واستعمال العنف ضد المناضلين. وبهذه المناسبة، أطلق إِدريس البصري عبارته الشهيرة‏ «‏شهداء كوميرا‏»‏ ‏من منصة البرلمان الذي سرعان ما غَادَرَهُ بدون أَن يعود إلى مقعده داخل القاعة.
وفي الواقع، لقد سقط شهداء بالعشرات؛ كما أكدت ذلك تحريات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي اكتشفت لجنة تحقيقه التي ترأسها الأخ مبارك بودرقة رفات عدد منهم. ومن ثم جرى الاعتراف الرسمي بهم وأعيد دفنهم في مقبرة خاصة بالدار البيضاء جرى تدشينها رسمياً يوم الاثنين 5 شتنبر 2016.
وفي هذا الجو الاجتماعي والسياسي الخانق، اتخذ الوزير الأول مبادرة لم أفهم مَغْزَاهَا إِلى يومنا هذا، وهي أنْ يطلب رأيي، بحضور الوزراء المعنيين، حول أسباب ومعنى ما حَدَثَ وماذا ينبغي القيام به. جرى الاجتماع في مقر الوزارة الأولى، فقلت له ما معناه أن ما يَحدُث هو نتيجة للسياسات المتبعة من عُقُود. وخلال هذه الفترة، فإِن هذه السياسات لم تَهْدِف إِلى تجهيز البلاد مادياً وبشرياً، وخلق الثروات المُوَجَّهة لتحقيق حاجيات المواطنين. والقليل مما كان يُنْتَج، كان يستفيد منه الميسورون أكثر مما كان يستفيد منه المحرومون. وتوجهت إلى الوزير الأَول بالقول:‏ «‏إنكم مهتمون أكثر بالاستهلاك بدلاً من الاستثمارات المنتجة. إِن البلاد لا تَتَوفَّر على نسيج صناعي ضروري لكل تنمية. والدولة تعيش فوق إِمكانياتها، الشيء الذي يدفعها إلى الدين الداخلي والخارجي فتفقد استقلالها المالي، الاقتصادي والاجتماعي. وعندما يؤخذ بخناقها، يكون رَدُّ فِعْلِها هو إِثقال كاهل المواطنين بالزيادات في المواد الأَساسية كما جرى الآن، وهو ما يستثير غضب الناس.
«ولتفادي ما وقَعَ وما عشناه، يجبُ تغيير جذري شامل للسياسات المتَّبعة إِلى حَدِّ الآن. لابد من سياسة تهدف، قبل كُلِّ شيء، إِلى مصلحة المواطنين والاستجابة لحاجياتهم. ولهذا، ينبغي خلق الكثير من الثروات وتوزيعها بشكل عادل. وهذا ما نسميه العدالة الاجتماعية. ولكن هذا كلَّه، لا يمكنه أن يتحقق إِلا في ظل حياة ديموقراطية حقيقية‏»‏.‏
ولم يُعَلِّق أَيُّ وزير على ما قيل كما لو كان حضورهم، لا من أجل المساهمة في الحوار، وإِنما للتسجيل فقط.
وفي آخر هذا الاجتماع، تنحَّيْت جانباً مع إِدريس البصري لأُلْفِت انتباهه إِلى خطورة ما جرى ويجري، وأنه يتحمل المسؤولية عن ذلك. وأجابني وزير الداخلية بقوله:‏ «‏النّْهَارْ كلُّه وأَنَا كنْقَلَّب على هَذَاكْ الصْگعْ دْيَالْ الأَموي، ولكِنْ كانْ غَيْر مَوْجُودْ‏»‏ ‏فقلتُ له:‏ «‏عندما تريدون فعلاً، في ظروف مثل هذه، الحَدَّ من الخسائر عن طريق الحوار تبادرون قبل أن تبدأ المواجهات‏»‏.‏
*
كنتُ بمعية إِخواني في الفريق البرلماني نهيئ حصيلة أحداث 20 يونيو 1981 قصد معرفة ما كان علينا أن نقوم به لاحقاً، حين توصلتُ بمكالمة هاتفية من الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي. فَذَهَبْتُ إِلى لقائه في بيته، وَوَجَدْتُه منْشغِلاً، وإنْ كان هادئاً كعادته، فأكد لي الخبر الذي كان رائجاً خلال تلك الأيام بأن جلالة الملك سيتوجه إِلى نيروبي (كينيا) للمشاركة في قمة منظمة الوحدة الأفريقية، ثم أخبرني سي عبد الرحيم بأنه اتفق مع الملك لكي أَنُوبَ عنه ضمن الوفد الذي سيرافق جلالة الملك لحضور هذه القمة.
قَدَّم لي آخرَ توجيهاته، وطلب مني أن أجري الاتصال مع مصالح البرتوكول في القصر الملكي، قصد الحصول على المعلومات المتعلقة بالسفر. وفي القصر، طُلِبَ مني أن أحضر الحقيبة وجواز السفر يوماً قبل موعد الرحلة. وكان ذلك هو ثاني سفر أقوم به مع صاحب الجلالة الحسن الثاني، نيابةً عن سي عبد الرَّحيم، بعد السفر إلى الفاتيكان.
خلال السفر، كان الملك يأخذ قليلاً من وقته، ولو أثناء الليل، ليتجول في ممرات الطائرة ليطلع على أحوال أفراد البعثة المسافرين إِلى جانب جلالته وطبعاً، تَوجَّه إِليَّ بالسؤال عن الحال وإبداء الاطمئنان.
يوم افتتاح القمة، كنا جميعاً على أعصابنا. وكانت هناك إِشاعات حول محتوى الخطاب الذي سيُلقيه الملك. فكان البعض متفائلاً أمام تشاؤم آخرين. وبالنسبة إِلينا كمغاربة، لم يكن هناك أي اجتماع تمهيدي ولم تكن لدينا أي معلومات. كانت قاعة الاجتماع غاصة تماماً، والمقاعد المخصصة لكل وفد جدّ محدودة، لكنَّنا نَجَحْنا في استعمال العدد المحدود للبَادْجَات في إدخال جميع الأعضاء الأساسيين لوفدنا. وكنا جميعاً نعرف أننا نعيش لحظة حاسمة فيما يخص قضية الصحراء التي كانت تخلق لدى المعنيين حالة من الانفعال.
كان جلالة الملك قد فكَّر في كل شيء، وهيأ كل الأشياء والتفاصيل حتى فيما يتعلق باللباس. فلم يختر لا لباساً أسود ولا رمادياً داكناً ولا أزرق داكناً كما كان يرتدي عادة في مثل هذه المناسباتِ، وإِنما اختار بدلةً خضراءَ داكنة جد أنيقة. وأَلْقَى بثقةٍ كبيرةٍ في النفس، خطابه، الذي كان الجميع ينتظره في المسألة التي كانت مدرجة كأهم نقطة في جدول الأعمال، لا فقط من طرف القادة الأَفارقة فحسب، وإِنما من طرف عددٍ من قادة العالم المهتمين بهذا المشكل المفتعل، وكانوا بوفرة في مختلف القارات.
استُقْبِلَ الخطاب المَلَكي بصورةٍ إِيجابيةٍ من طرف أصدقائنا الأَفَارقة وغيرهم الذين ارتاحوا بعد المبادرة المغربية في حين أن المتطرفين من خصومنا لم يخفوا انزعاجهم.
وسيتبدَّى الجانب الانفعالي للمشكل في كلمتَيْ متدخلَيْن، رئيس مدغشقر ديدْيِِي غَاتْسيرَاك ووزيرة خارجية جزر الرأس الأخضر. الأول الذي كان يقدم نَفْسه كماركسي لينيني حازم وصارم، كان قد هيأ خطبة قَبْلية بدون أن يأخذ بالاعتبار المستجدات التي جَرَتْ داخل قاعة المؤتمر، وأساساً المعطيات الجديدة التي جَاءَ بها الخطاب الملكي. فلم تعد كلمتُه منسجمة تماماً مع واقع الحدث فأعطى الانطباع على أن كلامه كان تجريدياً ودوغمائياً مثقلاً بالعموميات ولا علاقة له بالموضوع. فقد كان الرئيس مرتبكاً حتى قبل أن يشرع في الكلام ولم ينتبه إلى كأس الماء أَمامه فأَهْرَقَها فوق صفحات خطبته، وبدأ يصرخ حين لم يعد يستطيع فَرْز الكلمات التي اختلط مدادُها:‏ «‏سَابُوطَاجْ، سَابُوطَاجْ‏»‏ ‏!
علمتُ لاحقاً عن طريق السيد مصطفى نياس، وزير خارجية السنغال على عهد الرئيس سنغور، أنه ليلة افتتاح المؤتمر كلفه الرئيس سنغور بزيارة الرئيس المَلْغَاشي (مدغشقر)، وذلك ليوصيه بالاعتدال في موقفه إزاء قضية الصحراء المغربية. لكن تلك المبادرة لم تُؤْتِ أُكْلَها.
أما وزيرة خارجية جزُر الرأس الأَخضر، التي فُوجئَتْ بالخطاب الملكي فقد تخلت عن كلمتها المكتوبة مكتفيةً –وبما أنها كانت طبيبة نفسانية في تكوينها- فضلت أن تقوم بمقاربة نفسية لملك المغرب فبدأت تعلّق وتؤول معنى اللون الأخضر للبدلة الخضراء التي كان يرتديها الملك. الذي أراد، وفق نظرتها، أن يبعث برسالة تفاؤل. وحاولت أن تتوقف عند حركات وإيماءات العاهل المغربي.
أخذ الملك الكلمة من جديد فَشَكَر الوزيرة الأفريقية‏ «‏على هذا التحليل النفسي من على بُعْد وبالمجان (بدون مقابل).‏»‏.‏
تَصرَّفَتِ الوزيرة مثل شَوَّافَة.
وكان القرار النهائي لقمة نيروبي هو الأَخْذُ بالعِلْم باقتراح المغرب بتنظيم استفتاء لتقرير المصير بتعاون مع منظمة الوحدة الأفريقية. وقرر مجلس القمة عقد دورة أخرى للشروع في شروط تفعيل قرار القمة.


بتاريخ : 18/05/2023