هَوامِشُ مِن سِيرَةِ رَجُلٍ حَالِم

لا أصدَقَ للعَينِ من خَيدَعِ الماء،
يَشقّ كوَّةً في الأرض
إن لم يَفتح باباً في السماء..

على هَذا النّحوِ، للصّدفةِ الألفِ،
كنتُ الليلةَ النّاجيَ الوحيد
مِن لعبة الرّوليت المُدَوِّيَة
في صدغ اللّيلِ بِطلقةٍ طائشة..
وقاتلٍ مَأجور، من ذِمّةِ دمي،
كلَّ مرَّةٍ يُفلِتُ بأعجوبة..

كان لي أن نجوتُ
من فخاخِ الموتِ مِراراً،
وكلَّ مرّة كَحارسِ مَقبَرة
أجِدُنِيَ الباقيَ الأخيرَ
مِن تِلكَ الطروادَةِ الطاحنة
بانتظار جثّةٍ مثلوجَةٍ بِهالَةِ هَيلانة..
لم أكن صَريعَ بَاريسَ
من أجلِ الأميرةِ البئيسَة،
لأنّي كنتُ الوَجهَ المُعتِمَ
في مراياها الكسيرة..
لَم أكن أخيلَ القتيلَ
بِرَمحَةٍ في كَعبِهِ السّاهمة،
ولا بَطلَ تلكَ الإلياذَةِ الدّامِيَة،
لأني خارجَ حساباتِ الجُندِ
كنتُ داخلَ الأسوار
ذاكَ الحصانَ الخشبيَّ بِقوائمِهِ الكسيحة..

في غير ما رحلةٍ عاصفة
كنتُ ذاك البَحَّار الطالعَ مِن أعماقِ المَدار،
تَبدو لي أرصفَة المَرافئ كونتوارَ حانة،
وَحَواشي السّواحلِ أسرّةً من رَملِ
تَسقُفُها غيومٌ مُتعَبَة..
وَدوماً، بلا بَوصَلَة، أطلقُ العِنانَ لِمَدِّ العُباب،
يَتَجَعَّدُ المَوجُ مِن عَثرَةِ خَطويَ السّكران،
وَمِن مَجادِفِيَ التّعبَى
يَرغو الزَّبَدُ على أطرافِ الخلجان..

لي في ألفِ ليلةٍ ألفُ حكاية،
كأنيَ الرّحَّالة الموغِلُ في أسرارِ النِّهايات
هارباً من تَصَلبِ الوقتِ في ساعةٍ مُعَطلَة..
كأني مغنّي الليل في شرُوخِ أسطوانةٍ قديمة
صَدىً لِكورالٍ عالِقٍ في أغنيَةٍ مُهتَرئة..
وماذا لَو كنتُ المُقامرَ العائدَ كلَّ ليلة
من رِهانِ السِّبَاقِ بِخَيبَةٍ وَاعِدَة،
وَمَزيدٍ مِن أنخابِ الحيَاةِ بِرَميةِ نِردٍ خاسِرَة؟..

عادَةً، في الصباح، أكون العاشِقَ المنشغلَ
بأجوندا مَواعِدِيَ الآجلة،
وفي المَساءِ أكونُ الآهِلَ
بتفاصيلِ قِصَصِ الحبِّ البذيئةِ بِحِبكَةٍ مَكشوفَة..
أحياناً أكونُ المُغامِرَ المَفتُونَ
بالرّقصِ على الحِبَالِ بِرُهابِ الأعالي،
وفي كلِّ سَقطةٍ حُرَّة أرتَطمُ بِوَجهِ غيمَةٍ حانِيَة،
أو أنخطفُ مع الغُيُوم في السّماء
قَائِداً لأسرابٍ الطيُور في هِجرَتِهِا القفراء..
وفي غير ما اغتيالٍ كنتُ القَيصَرَ العاهِلَ
بحاشيتي حول عشاءِ الموتى..
أتلو تراتِيلَ اللّيلِ على أسماعِ المُعَزّين
مِن تابوتيَ المُسَجّى بِأقصى الزّاويَةِ
في رُقعَةِ الشَطرَنجِ المَوسُومَة بِمُنمنَماتها الخَشَبِيّة..
وَنهايَةَ كلِّ نازلة،
تُشهِرُ بَيادِقي رايَتيَ البيضاء
حَسماً لحَربٍ مَحسومَةٍ بِنَعيِ الشاه،
وَمِن عَتمةِ الكواليسِ، بعيدا عن فضول الرّعِية
أتَسَلَّلُ مِنَ البَابِ الخلفيّ
مَغموراً بِنورِ الأضواءِ لِمُعانَقَةِ الحَيَاة..

أحيانا أكونُ الرّجلُ الذي يَتَأنّقُ كلّ صَباح..
فِي مَقهَى الرَّصيف أنغَمِرُ بِفَداحَةِ الفراغ،
غارقاً في ضَجيج النّهار بانتظار قصيدةٍ عابرَة..
وفي المساء في غرفتَيَ العزلاء،
أنشَغِلُ سِرّاً بِأيَّةِ مَسَرّة
تَستَهويني بِمعزوفةٍ راقصة
في رَدهَةِ حَانَةٍ رَخيصَة
مَعَ أيَّة امرَأَةٍ عاثِرَة..

من كلِّ ذلكَ، لستُ حارسَ مَقبرة
على حافّةِ حُفرَةٍ مُترَبَة بانتظار جثةٍ مُتَعفِّنَة..
ولا معشوقَ أميرةٍ بَئيسة
بوجهيَ المتَلَصِّصِ من شقوقِ مراياها الكسيرة..
لستُ البَحّارَ المُتَعَثرَ بأمواجه المُتعَبَة
في حكايا ألف ليلةٍ وَلَيلَة..
ولا المقامرَ الآهِلَ بِفيضٍ من أنخابِ الخسرانِ
في خيباتهِ الواعدة..
لستُ العاشِقَ المُفعَمَ بقصَصِ حُبِّهِ البذيئة
بحبكةٍ مكشوفة..
ولا المغامرَ المسكونَ برهاب الأعالي
مشدوداً لِحِبالِهِ العالِقِة..
لستُ الرّحّالةَ المُثقَلَ بأسرار النهايات
في أرضٍه المُوحِلَة..
ولا الملكَ العاهلَ بِحاشِيةِ الموتى
في عشاء البارحة..
لستُ حارسَ القيصر في قَلبِ الليلِ
من طعنةٍ غادرة..
ولا حاجبَ الشاه القابِع
في تابوته المُسَجّى بقلب حُصونه المنيعة..

من كل ذلك، أنا فقط ذاكَ الرّجُلُ المُفعَمُ
بأحلامه الفقيرة..
وكما في قصص الأطفال المُسَليَة
أنا فقط ذاكَ الشاعرُ المُتخَمُ بالقوافي الوفيرة..
كلَّ مَرّةٍ، في خَتمِ القصيدة، يُحبُّ أميرَة،
وتُحِبُّ الأميرةُ شاعراً غيرَه..


الكاتب : نور الدين ضرار

  

بتاريخ : 19/05/2023