جفاء

لم تعد المدينة تعرفني، مسحت اسمي، وأغلقت دفاتري، ودفنت أيامي، وصلتها صباحا، ابتسمت في وجهها، فعبست، اقتربت منها، فابتعدت، خاطبتها، فسكتت، فرحت بلقائها، فغضبت، طرقت الأبواب، وصلت الرحم، ورميت النظرات على النهر، وناجيت الأشجار، وزرت القبور، ونقشت الخطوات، وألقيت التحيات، وقصدت التجمعات، ومشيت في مواكب الأعراس، ورافقت الجنائز، وصليت في المساجد، وابتعت من الأسواق، واستمعت إلى المغنين، وتأثرت بالباكين، وشاهدت اللاعبين… لكن المدينة ظلت ترفع، في وجهي، يافطات النسيان.
صاح، يا من تسألني، وتطلب الصور، وتشتهي السير على الضفاف من جديد، المدينة تنكرت لأبنائها الأوائل، طردتهم من البال والحسبان، وصادرت بصماتهم، وإن لم تصدق، تعال، واطرق الأبواب، وسر في الدروب والشوارع، وحاول مصافحة الناس، لن يفتح في وجهك باب، ولن يعرفك أحد، سلتهو بك رياح الغربة، وتفترسك أنياب الجفاء.
ما أقسى أن تسافر بك الأشواق، وتصدك الأحضان! وتجد نفسك غريباً في بيتك، في دربك، في ملعبك، في ضفتك..!
فتصيح من ذا الذي يسقيني كأس وصل، يطفئ بعضاً من لظى وحشتي؟ ثم لا يجيبك أحد..!
خفقات الحب متوقفة، الدواء مريض، النهر عاجز، المقبرة مزهرة، الكلام كثير، العمل قليل، الثرثرات عالية، كراسي الخلص شاغرة، الأغاني غائبة، المطر مؤجل، الشمس غاضبة، الشوارع عابسة، الزغاريد نائمة على أسرة بيضاء، الابتسامات صفراء، الخريف مجلجل ، السطح طاغ، العمق هزيل، الجمال شيخ طاعن في السن، القبح مفتول العضلات، الحاجة كبيرة، السنابل ضئيلة، وبائعات الخبز حزينات..
المدينة التي تقصفني بقنابل الجفاء، كنت طفلاً من أطفالها، فيها صرخت صرختي، وخطوت خطوتي، ونطقت كلمتي، من جوها استنشقت أول الهواء، ومن مائها شربت أول الشراب ، ومن طعامها أكلت أول الأكل، ولعبت على أرضها، وتربيت في مدارسها، وتعلمت..
وكنت أيضا شابا من شبانها، في مياه نهرها سبحت، وعلى ضفته عدوت، ووقفت، وغنيت، وحلمت، واسترحت.. وقصدت الثانوية، وواصلت التعلم، وطرحت السؤال، وأحببت، ونجحت، ورسبت، وصحت، وهتفت، ولعبت في الملاعب، ومشيت بين الحقول، وقطفت برتقال وتفاح الضيعات، وغنيت الكلمات، وتهت في سراديب الحلم والخيال..
وأنا الآن، كهل من كهولها، مسجل في دفاترها، أذهب، وأعود إليها، تشغلني همومها، أحزن لحزنها، وأفرح لفرحها، تسعدني انتصاراتها القليلة، وتؤلمني هزائمها الكثيرة.. أكتبها بدمي، وأرسمها، على بياضات الحلم، مياها جارية، وحدائق يانعة، وطيورا مغردة، وشوارع أنيقة، وبنايات شاهقة، ونجاحات عالية، وأغنيات صافية، وسحابا وفيرا، ومطرا غزيرا، وشمسا ناعمة، ومحاصيل دائمة..
وغدا، سأصبح شيخا من شيوخها، أرتل النهايات، وأسرد الذكريات، أكتوي بنيران الأحلام المحروقة، وهي كثيرة، وأنتعش تحت ظلال النجاحات، وهي يسيرة، أتوكأ على عصا شيخوختي بكرة وأصيلا، وأخطو خطواتي العسيرة، وأقول كلماتي، وأصلي صلواتي، وأهجر ملذاتي، وأعزف نهاياتي على ناي غربتي..
آخذ الأحفاد إلى روضات الأطفال، ألعب ألعاب الشيخوخة رفقة الشيوخ، أجلس على كراسي الإسمنت مع الجالسين من عجزة ومعطوبين ، أتابع مرور وسائل النقل، وقوافل السائرين، أتألم، أشتكي، وأبكي في الصمت والعلن..
تصببت خطواتي عرقا، وهنت، عجزت، لم تعد قادرة على نقش حروف المشي على نتوءات الممشى العسير، أمرتني بالوقوف، فوقفت، ثم نظرت إلى سحابة ضاحكة، وتجلت أمي لابسة فصل الربيع، ضحكت الأرض مزهوة بالأخضر والأبيض، فتحولت الوالدة إلى شجرة، ثم سمت الأغصان، وطالت، واستقامت الظلال، ومالت. ابتسمت أمي ابتسامة مزهرة، ثم أخذت تسقيني، وتطعمني، ناولتني بغصن ماء، وبآخر خبزا، وبثالث عنبا، وبرابع قلما.
توالت عطايا أمي، لكن المدينة ظلت تشهر في وجهي يافطة الجفاء.


الكاتب : محمد الشايب

  

بتاريخ : 26/05/2023