سراديب الموتى في باريس

 

فجأة وجد الرجل نفسه غارقًا في لجة هم. لكن لم يبد الأمر كما لو كان يضايقه أو يسبب له أي متاعب في مخطط الأشياء العادية لحياته، أو هكذا ظن. لقد كان هماً نابعا من أسفل، من عمق غير مرئي، لكنه ممتزج ومخترق بنعومة معينة لها وخز ما، طيب من جهة ما. كان يتوقع أن يواجهه ذات يوم دون أن يعرف متى بالضبط. لكن الرجل الذي يراوح عمره الخمسينيات، واسمه موحا، تعرف عليه يوم التقى بفتاة مميزة وفريدة من نوعها. لم تكن مثل أي فتاة أخرى عرفها من قبل، أو من تلك اللواتي يحدث له أن يصادفهن في مجرى الأيام.
التقى بها بعد ظهر أحد أيام غشت، خلال نزهة بلا هدف محدد على إحدى جوانب شارع دنفر روشيرو بالقرب من مأثر قبر إسوار. كانت السماء تمطر بغزارة في ذلك اليوم، وكان اضطر ليحتمي منه، للوقوف لصق الجدار الخارجي بالقرب من باب الدخول الرسمي للقبر، عندما سمع الفتاة تقول له :
هذا مكاني، ابتعد من هنا !
لم يفهم شيئًا في البداية عن سبب هذه العدوانية المفاجئة. كانت هناك أمامه مبتلة بالكامل. ينزل الماء على شعرها الأشقر اللامع، ليسيل أسفل وجهها ورقبتها، ويُلصق ملابسها على جسدها. كانت شقرتها تلمع على هذا الجسد الملتحف بسترة تظهر ثدييها المستديرين والمدببين، وبتنورة قصيرة للغاية به طيات عمودية، وحذاء تم فك أربطته. كل شيء فيها كان ذا مظهر ذهبي يبرز جمالا بريا وحشيا. كانت تعكس عدم مبالاة غريبة.
التقط كل هذه التفاصيل في لمحة بصر. شدته هي بدورها. على الفور، قفزت إلى ذهنه فكرة أنها فتاة متفردة من تلك اللواتي يشاهدهن في صفحات الاشهار لجريدة لوفيغارو الواسعة الانتشار، كما لو انبعثت من حكاية سريالية. لكنه لم يرد عليها. ظل صامتًا، غير مبالٍ تقريبًا. منعه عدم الفهم الأكيد من إدراك ما أرادت أن تلمح إليه من أمرها العدواني، ولم يدر كيفية الرد عليها.
بعد لحظة، وبعد أن رأت أنه لم يتزحزح من مكانه، كررت الطلب الآمر، وهي ترفع صوتها أكثر. أجاب بصراحة، بدت كما لو أنها ضد إرادته :
هذا المكان يخص الجميع على حد علمي!
ثم استدار ونظر إليه. لم يكن به شيء مميزً. كان المكان عتيقا بعض الشيء، لا أكثر، وبه نصب تذكاري كبير في المنتصف حيث يوجد تمثال ضخم لأسد رابض.
لفتهما لحظة صمت. بدا الأمر مأزقا. نظرا إلى بعضهما البعض. كان المطر لا يزال يتساقط ويغرق الفتاة بأكملها، لكن يبدو أنها لم تكن تهتم. حدق فيها بنظرات أسف ودهشة وارتباك.
بدأت في دق الأرض بقدميها كطفلة عنيدة رُفِض لها طلبٌ، لكن دون أن تظهر غضبًا واضحًا، ودون إحداث الضوضاء، وغير مبالية دائمًا بالمياه التي تغمرها أكثر فأكثر. تدفقت في كل جزء من جسدها، وتحولت الملابس الآن إلى كتلة من الشقوق والطيات الملتصقة واللامعة، والمسارب المنتفخة والمتكسرة التي تتغير في كل مرة.
فجأة أشفق عليها، وفكرة إيجاد مخرج مشرف أقنعته أخيرًا بالتحدث إليها مقترحا مخرجا للمأزق :
– يمكنك مشاركتي الجدار إذا أردت، هناك ما يكفي من المسافة لشخصين.
حدقت فيه وقد اتسمت نظراتها بصلابة وغياب أي تعبير محدد، ثم أجابت، ضاغطة على كل حرف :
– أنت لا تفهم أم ماذا ؟ أخبرتك أن هذا المكان ملكي لي وحدي !
تساءل كيف يمكن للمرء أن يمتلك ساحة صغيرة في مدينة تاريخية تراثية، لكنه لم يخبرها. رفع موحا عينيه ونظر، منزعجا قليلاً ليتأمل المباني الموجودة في ما حوله، ثم ساحة دنفر روشيرو. أخيرا اتجه بنظرات نحوها.
– لقد اعتدت على ذلك، قالت للتو.
– هذا لا يمنحك أي حقوق ؟ أجاب.
ها هو يفاجئ نفسه بالبوح بأنه يتعامل مع فتاة متفردة. وبدون سبق الإصرار على ذلك، اختار الهجوم باختلاق كذبة. لقد عنَّ له أن كل هذا ليس ربما إلا نزوة.
– جئت هنا بعض المرات، لم أرك به من قبل.
فوجئت فجأة، ورجت جسدها، مما تسبب في اندفاع الماء، فتناثر وبلل موحا. لكنه لم يتحرك. بل أحس بنوع من الانتعاش جراء ذلك.
– أحيانًا أرحل بعيدًا مثل أي شخص آخر، كنت على سفر، لكنني دائمًا أعود.
لم يرد. أربكته كلمة سفر، وقرر عدم مواصلة الهجوم.
– بما أنك حريصة جدًا على هذا الأمر، سأبحث عن مكان آخر.
لم ينتظر ردها، ونفذ وعده. أسرع مبتعدا، متجنبًا قطرات المطر والبرك، وتوقف. تبعته الفتاة بعينيها. من جانبه، لم يلتف إليها، وظل هادئًا، مثبتًا جيدًا على الحائط.
– لا أعتقد أنها فكرة جيدة، عليك الابتعاد بحيث لا أراك. إذا بقيت، فسوف تزعج تأملي الانفرادي.
«هذا أمر لا يصدق! فعلا، لا يصدق ! « قال لنفسه، لكنه لم يقل لها شيئًا. لأنه في أعماقه، وجد نفسه مفتونًا بها تمامًا. اعترف بذلك بينه وبين ذاته، بفرحة خفية. اللون القمحي الذي كانت يشع على جلدها، وبشرتها الحليبية، كانا جاذبين ؛ هيئتها النحيفة لا بد وأن تُسعد كل نحات، عيناها اللوزيتان التي تتحدى المطر والهواء حواليها، سلوكها الذي يخترق ويرفض على طريقة فالكيري صغيرة دون أن تتكلف ذلك في مظهرها. ترنح وارتعد.
في غضون ذلك، توقف المطر عن الهطول. أخرجت الفتاة سيجارة من أسفل حقيبة مصنوعة من جلد التمساح، وأشعلتها وأخذت تنفث الدخان ببطء. كانت تأخذ الوقت اللازم لذلك، كانت تسخر من الناس، من كل شيء.
قرر موحا، في زخم يمليه سوء الفهم والاضطراب، الاستسلام. استغل الهدوء بعد المطر، وابتعد ورأسه منحن. لكن مرة أخرى جاءه صوت الفتاة من الخلف :
– ياه ! لن تغادر هكذا كأن شيئا لم يحدث !؟
استدار.
-لا أفهم ! ماذا تريدين أكثر من هذا ؟
-هذا سهل جدا ! أولا تأخذ مكاني، والآن تذهب بعيدا وكأن شيئا لم يحدث!
– كفى، لقد طردتني، ثم سخرت مني … هذا كثير جدًا … لست في حالة مزاجية لمقارعة أعصابك.
وجد نفسه يقول ذلك كما لو كان الأمر بديهيًا، كما لو كانا يعرفان بعضهما البعض منذ سنوات. ثم صمت وضل يحدق فيها. كان هناك وميض ساطع في عينيها أخافه قليلاً.
– لم أعد أنا، أنا كما كنت ؛ لقد أزعجت طمأنينتي، لقد كشفت سري !
شده غضب بسيط.
– لكنني لست الوحيد الذي فعل ! لمادا أنا بالذات ؟ لقد فعلها الآخرون قبلي بالتأكيد.
– إلا أنك الوحيد الذي فاجأته ؛ عادة لا أجد أي شخص هنا. إنه مكان أُعطي لي. لكنك لن تفهم ذلك أبدًا.
لم يفهم في البداية، ثم شيئًا فشيئًا، في الصمت الذي أعقب ذلك، خمن ما قد تحتويه هذه العبارة.
– أنت الوحيد الذي يتم قبوله ! وهذا ما لا أفهمه.
«قبوله ! ؟ «. ردد الكلمة كما لو كان منبهرًا بها. هذه الحقيقة المنطوقة. أغمض عينيه ليمسك بثقلها ومضمونها. عندما فتحهما، رأى أن الفتاة وهي تبتعد، وكأن تيارًا كان يمتصها من الخلف. تبعها، أراد كبحها، عبثًا. لم يعرف لم فعل ذلك، لكن الصرخة العدائية للفتاة الغريبة في وجهه ظلت ترن طويلا، تختلط بصورة الهروب البطيء لها وهي تغادر الساحة. أزعجته الكلمة وصورتها المتحركة، وكان يترددان كصدى في داخله مثل لازمة مهيمنة، صوتية وبصرية. كان يعلم أنها لن تتوقف لزمن. سوف تطارده، ليس كمصدر قلق مزعج، ولكن كصورة فردية لبطلة كتاب، كنادية ..
كان يعلم أنه لن ينفصل عنها أبدًا. لأن هذا المكان موجود فعلا. مكانها الخاص، هذا الفراغ المخيف الآن الذي طالبت به بإصرار. ثم استدار وقرأ ما كتب على الحائط : سراديب الموتى في باريس. شعر بالخوف الذي بدا وكأنه نتيجة نقص مخيف. لقد فهم في النهاية.
ثم طنت جملة في رأسه، مثل جرس: «أخبرني بمن أنت مهووس، أُخبرك عمن تكون»! ارتجف. فقط هوس يمكن أن يفسر هذه التعدي من الفتاة.
مثل نادية أندري بروتون. . .


الكاتب : مبارك حسني

  

بتاريخ : 26/05/2023