مشاركة المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية موضوعا إبداعيا متجددا

رواية «عريس الموت» لعبد الحميد البجوقي

بين التاريخ والرواية خيط رفيع للإبداع وللتميز. وبين الذاكرة والخلق روابط استرجاعية تنهض عليها نظيمة القيم والرموز والمرجعيات التي تنتظم داخلها حياة الفرد والجماعة. وبين انكسارات الماضي وتطلعات المستقبل، تنبثق المواقف الإنسانية النبيلة المنتصرة للحياة وللتسامح وللسلام وللاختلاف وللقبول بالآخر. وإذا كان الإجماع حاصلا حول حدود التقارب وحول سقف التنافر بين صنعة كتابة التاريخ من جهة، وبين دوائر اشتغال المخيال الجماعي المنتج للإبداع وللفن وللخلق من جهة ثانية، فإن معالم «الطريق السيار» بين الحقلين أضحت أكثر بروزا داخل مشهدنا الثقافي المحلي وداخل أشكال تلقي النصوص الإبداعية التي تمتح منطلقاتها ومادتها الخام من وقائع تاريخية محددة في زمانها وفي مجالها الجغرافي وفي وقائعها الحدثية. ويجد هذا الأمر تفسيره في ترسخ قناعة كل طرف بأهمية تحقيق الانفتاح الراشد على مجال اشتغال الطرف الآخر، ليس بهدف استنساخ الخلاصات وتمطيط حقول التلقي المعرفي والثقافي، ولكن -أساسا- بهدف فتح أبواب الممكنات الهائلة التي توفرها حقول العلوم الإنسانية لإغناء الأنساق الثقافية المشتركة التي تصنع عناصر الهوية الجماعية، بتعبيراتها المادية المباشرة وبظلالها الرمزية المجردة.
مناسبة هذا الكلام، صدور رواية «عريس الموت» للأستاذ عبد الحميد البجوقي، سنة 2023، في ما مجموعه 195 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، في محاولة لإعادة تقليب إحدى أكثر الصفحات التهابا وإثارة للجدال بالضفتين المغربية والإسبانية خلال زماننا الراهن. يتعلق الأمر بموضوع مشاركة المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية التي شكلت إحدى أكبر كوارث العالم خلال مرحلة ما بين سنتي 1936 و1939. ويبدو أن هذا الموضوع أضحى يمارس جاذبية كبرى على قطاعات واسعة من المبدعين والمفكرين المغاربة المعاصرين، بالنظر لاعتبارات متعددة، لعل أهمها مرتبط بعمق المأساة الإنسانية التي خلفتها الحرب الأهلية الإسبانية داخل ذاكرة المغاربة الذين وجدوا أنفسهم متورطين في حرب لم تكن تعنيهم تفاصيلها لا من قريب ولا من بعيدا أولا، وبالنظر لبؤس الصور النمطية التي ترسخت لدى الرأي العام الإسباني حول همجية «الموروس» الذين أُلصقت بهم كل شرور الكون في ظل الجريمة الفرانكوية المتآمرة على التاريخ وعلى حقائق الواقع ثانيا، ثم بالنظر لارتدادات هذه الأحكام الجاهزة على مجمل المواقف والرؤى التي ظلت تحكم سياسة إسبانيا الراهنة تجاه المغرب وتجاه قضاياه وعلاقاته الحالية ثالثا. ولعل هذا ما جعل قطاعات واسعة من مبدعي المغرب، يعودون لتقليب صفحات الحرب الأهلية الإسبانية على مستويين اثنين متكاملين، يرتبط أولهما بجهود الدرس الأكاديمي التاريخي المتخصص مثلما هو الحال -على سبيل المثال لا الحصر- مع أعمال الأساتذة مصطفى المرون وبوهادي بوبكر. ويرتبط ثانيهما بأشكال توظيف وقائع الحرب المذكورة في إنتاج نصوص روائية إبداعية تشتغل على الخلفية التاريخية للحرب المذكورة وتجعل منها أرضية لإنتاج نصوص على نصوص، وأعمال على أعمال، ورؤى على رؤى، مثلما هو الحال مع ميمون الحسني في روايته «سفينة للاياما» (2019)، أو مع حسن العمراني في روايته «أماس الريفية» (2021)، أو مع عبد الحميد الهوتة في روايته «حرب الآخرين» (2022).
لكل ذلك، أضحت مآسي الحرب الأهلية الإسبانية موضوعا مغربيا بامتياز، له رواده، وله مبدعوه، وله أعلامه، مادامت إسقاطاته لازالت ترخي بظلالها -بقوة- على مواقف جزء كبير من الرأي العام الإسباني الحالي، بنفس القدر الذي لازالت فيه مآسيه تحمل ندوبا عميقة وجروحا بليغة داخل الذاكرة الجماعية لمغاربة الزمن الراهن، وخاصة بشمال البلاد. ولتوضيح حدود التمايز بين التوظيف الإبداعي للموضوع، وبين سقف التوثيق العلمي لتفاصيله، يقول عبد الحميد البجوقي في كلمته التصديرية لرواية «عريس الموت»: «كان لمتابعتي تداعيات الأزمة الأخيرة بين المغرب وإسبانيا، واهتمامي بكل الإصدارات والأطروحات المتعلقة بمشاركة الجنود المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية دور كبير في استفزاز خيالي الروائي والغوص في جوانب أخرى لهذه المشاركة المغربية في هذه الحرب بعيدا عن التي يهتم بها ذوو الاختصاص من المؤرخين، جوانب تتعلق بما هو إنساني، لتفاصيل أخرى من هذه المشاركة… مشاهد أخرى لن تجد طريقها لعموم القارئين سوى عبر السرد الروائي… لم يكن زادي في كتابة هذه الرواية سوى الخيال ومعايشتي للإسبان لما يقرب من أربعة عقود لمست خلالها مدى استمرار حضور المورو في مخيلة الإسبان بشكل نمطي مثير لثنائية غريبة من الحب والكره…».
يحضر التاريخ في نصوص السرد التخييلي، بعد أن يعطي للذات فرص البوح المطلق والتعبير عن التجربة الشخصية في فهم ذاتها وفي استيعاب واقعها وفي التفاعل مع محيطها. بمعنى أن السارد يتحول إلى شاهد على عصره، يخشى من ضياع رذاذ الذاكرة، ويخشى من فعل عوادي الزمن والنسيان، فيسعى لتكريس كل الجهد لإنقاذ ذاكرته الفردية المتقاطعة مع الذاكرة الجماعية، في محالة لكتابة تاريخ اللحظة، لحظة الحدث، ولحظة الامتداد، ولحظة التمثل، ولحظة التذكر والاستحضار. في هذا الإطار، استطاع المبدع عبد الحميد البجوقي تحيين مسار سيرتين متباعدتين لكنهما متقاطعتين بروابط الدم والنسب والانتماء للأرض، ترتبط السيرة الأولى بمسار عبد الرحمان وزوجته روصاريو، في حين ترتبط السيرة الثانية بمسار عبد الكريم وزوجته عشوشة. وبين المسار الأول والثاني، تتقاطع السياقات، وتنقلب المواقف لتعيد أنسنة قضايا مغاربة الحرب الأهلية الإسبانية. تنطلق مضامين المتن من حيثيات التحاق عبد الرحمان بقوات الجنرال فرانكو عند تمرده ضد الجمهورية، قبل أن يجد عبد الرحمان نفسه في الضفة الأخرى مناصرا للروخوس أنصار الجمهورية. وفي المقابل، يجد عبد الكريم نفسه عميلا للإدارة الاستعمارية الإسبانية بمرتيل، قبل أن تنبعث أصالة روحه بالعودة إلى حميمية الانتماء، عندما عمل على إنقاذ ابن عمه عبد الرحمان الذي كان قريبا من الوقوع في قبضة القوات الاستعمارية الإسبانية بشمال المغرب. تشكل سيرة عبد الرحمان مسارا متميزا لنبل الانتماء في الدفاع عن آدمية الإنسان، بغض النظر عن أصله وعن عقيدته وعن جذوره. أصبح عبد الرحمان «عريسا» فوق العادة «للموت»، بعد أن اختار جعل نفسه جسرا ممتدا نحو الإخلاص في الموقف، وفي الاستماتة في الدفاع عن الحق وعن الكرامة. ويلخص عبد الحميد البجوقي هذه السمات، بشكل دقيق، قائلا: «كثيرا ما كان يردد أنه عريس الموت، وكان ينتظرها في أي لحظة، بل يتمناها للتخفيف عن آلام وجروح مشاركته في الحرب الأهلية، «عريس الموت» شعار يصرخ به جنود اللفيف الأجنبي تعبيرا عن شراستهم القتالية وحبهم للموت والقتل وإراقة الدماء، ولا يفتأ يشرح كلما ردد الشعار أنه عريس للموت من آجل السلام، من أجل الحياة ومن أجل الحرية، وكذلك كان، استشهد وهو يقاتل بطريقته من أجل ذلك… كان يردد باستمرار أن الحرية وطنه وأن الانتماء له لا يستقيم دون حب الإنسان للإنسان، ربما لذلك أراد القدر أن يموت وهو يدافع عن الحرية والإنسان، لا عن الدين والعرق والحدود، أن يموت مغدورا دون قبر أو شاهد يؤرخ لوفاته واسمه، أن يحمل كل تلك الأسماء المغربية والإسبانية وحتى العبرية، التي كان يستعملها في تنقلاته… كان يردد دائما أن الدين لله والحرية وسيلة الإنسان إلى معرفة لله…» (ص ص. 178-180).
وعلى أساس هذه السمات، تنهض سيرة عبد الرحمان الروخو، أو أليخاندرو، لتقدم قراءة موازية لمسارات الحرب الأهلية الإسبانية، بشكل يجعل السارد يعيد «محاكمة» كل من تسبب في توريطه في هذه الحرب التي لم تكن له، ولعموم المغاربة، ناقة ولا جمل في محركاتها ولا في أهدافها. يقول السارد على لسان عبد الرحمان: «زج بي أبي في جيش فرانكو وأوهمونا بأننا سنحارب الكفار وسنحصل على غنائم وسبايا. كان عمري حينها 15 سنة، صدقت كلام أبي والفقيه الذي حدثنا يوم التحاقنا بفيلق المغاربة بإذن الوزير الغنيمة والخليفة، وهنأنا على التحاقنا بالجهاد. أتُصدق… أنهم قالوا لنا أن مشاركتنا في حرب الإسبان الأهلية جهادا؟ نعم حينها صدقنا ذلك، كنا نعتقد أن الجنرال فرانكو من المسلمين، وأنه يتخفى حتى يعلن إسلامه بعد النصر على الجمهوريين الكفرة الملحدين، وصدقنا أنه السلالة الشريفة وأنه محصن ضد كل سوء، وأن الرصاص لا يخترق جسمه بفعل بركاته…» (ص ص. 42-43).
وعلى أساس هذا المخطط، وجد المغاربة أنفسهم في أتون حرب طاحنة، خلفت جروحا غائرة بين ثنايا الذاكرة المشتركة المغربية الإسبانية، مادام الرأي العام الإيبيري ظل يستنسخ صور القتل الهمجي والاغتصاب والنهب والسلب، ويلصقها بسير «المورو» المفتقد لأي إحساس بالآدمية وبالانتماء لفصيلة الإنسان. يسعى نص «عريس الموت» إلى إنصاف «الموروس»، حطب الحرب، من خلال إعادة البحث في ثنايا الصورة، قصد الوقوف عند الخلاصة التي تجعل منهم أطرافا من بين أكبر ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية. يقول السارد: «لا تنس أنهم استغلوا جوعنا آنذاك لتجييش الشباب والقاصرين والزج بهم في حربهم الكريهة، بمساعدة الخليفة وأزلامه، لا تنس أنني كنت من بين هؤلاء القاصرين المغرر بهم تحت ضغط الجوع والحاجة، اقترفنا حينها أبشع الجرائم، وأغلبنا مات غير مأسوف عليه أو عاد معاقا إلى أهله. فقبور جماعية وأخرى مجهولة لجنود مغاربة قضوا نحبهم في الحرب مازالت شاهدة على مأساة مشاركتنا في حرب لم يكن لنا فيها ناقة ولا جمل، ناهيك عن الذين تم طردهم بعد نهاية الحرب وفصلهم عن زوجاتهم الإسبانيات وأولادهم، بعضهم لم يشفع لهم اعتناقهم المسيحية وتغيير أسمائهم الأصلية بأخرى اختارها لهم الرهبان… كنت شاهدا على مآسي كثيرة وعنف نظام فرانكو وتنكره لتضحيات هؤلاء بعد نهاية الحرب، باستثناء الذين اختارهم حرسا شخصيا له، نعم حرسا شخصيا يسهر على حماية قصر الديكتاتور لأنه لا يثق في بني جلدته…» (ص ص.46-47).
يستنطق عبد الحميد البجوقي سيرة السارد عبد الرحمان، مخترقا الأزمنة المتراوحة بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن الماضي، ليربط بين ظروف الحرب الأهلية الإسبانية من جهة، وبين ظروف اندلاع المرحلة الثانية للمقاومة المسلحة المغربية بعد نفي فرنسا للسلطان محمد بن يوسف من جهة ثانية. في هذا السياق، حرص المؤلف على استثمار رصيد هائل من فضاءات الأمكنة بالضفتين المغربية والإسبانية، إلى جانب أسماء وأعلام لرموز المرحلة. في هذا الإطار، نستشهد -على سبيل المثال- بتوظيف المؤلف لمعالم طوبونيمية قائمة مثل فضاءات ساحة «باب الشمس» بمدريد، ومعلمة «باب العقلة» بتطوان، وفضاءات «الغرسة الكبيرة» و»باريو مالقة» و»جبل درسة» و»ساحة الفدان» بنفس المدينة، ومراكز حضرية قائمة بإسبانيا وبشمال المغرب مثل مارتيل وواد لاو وقبيلة كبدانة والعرائش. وبموازاة ذلك، ظل المؤلف حريصا على توظيف سير أعلام المرحلة من مغاربة تطوان خلال الفترة الممتدة بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن الماضي، مثلما هو الحال مع شخصيات مثل عبد الخالق الطريس، والجنرال محمد أمزيان، والجنرال بكبيدير،… بل ظل السارد حريصا على إدماجها داخل بنية السرد بعد أن تحولت إلى شخوص مركزية داخل متن الحكاية. ولعل هذا ما جعل المؤلف ينحو نحو التركيز على إدانة أنوية الحركة الوطنية لدورها في مؤامرة تجنيد الشباب المغربي في هذه الحرب العبثية. في هذا السياق، تخلى السارد عن منزعه التخييلي ليقدم موقفا سياسيا مباشرا بخصوص تقييم أداء الحركة الوطنية بشمال المغرب. يقول السارد على لسان الخليفة السلطاني: «لا تثق في الزعماء الوطنيين، إنهم لا يقرون على قرار، المكي الناصري يلعب على كل الحبال، كان دمية المقيم العام خوان بيكبيدر أثناء الحرب الأهلية لتقسيم صفوف الحركة الوطنية، مكنه حينها من مدرسته الخاصة قريبا من مشورنا السعيد، ومن تأسيس حزبه وجريدته، وبنونة أصبح ممثلا لشكيب أرسلان في المنطقة، لا يفتأ يطبل لشعارات القومية العربية والوحدة العربية، ولا تخفى عليك العلاقات التي كانت تربط شكيب أرسلان بالنازيين والفاشيين قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. أما سي عبد الخالق فلا داعي أن أذكرك بخطاباته الرنانة على أمواج إذاعة إشبيلية وتطوان، وحماسه في الدفاع عن فرانكو بعد ترخيص سلطات الحماية لحزب الإصلاح الوطني، وتنصيبنا له وزيرا للأحباس… من مساوئ هذا الرجل، أو ربما حسناته أنه صادق وحسن النية، وهذه صفات لا تستقيم مع السياسة…» (ص ص.34-35). ولعل هذا الموقف، كان من وراء نزوع عبد الرحمان الروخو، الشخصية الرئيسية في الرواية، نحو التشكيك في مصداقية خطاب الحركة الوطنية في الشمال، بإصراره على تحميل قيادة هذه الحركة نصيبا وافرا من المسؤولية عما وقع. ظل عبد الرحمان يصر على تحميل المسؤولية لكل من تورط في بيع فقراء شمال المغرب للجنرال فرانكو، قصد المتاجرة بمآسيهم تحت غطاء الدين والوطنية، في مقابل وعود زائفة سرعان ما سقطت أوراقها بعد حسم فرانكو الحرب في الميدان.
تعود رواية «عريس الموت» لنفض الغبار عن الجانب الإنساني في موضوع الحرب الأهلية الإسبانية، وفق رؤية تخلص في الوفاء لمنطق التجميع الكمي للوقائع وللمعطيات، بموازاة مع الانفتاح الكلي على ملكة التخييل وعلى منزع الخلق وعلى روح الإبداع. ولعلها السمة الأساسية القادرة على مقاربة البعد الإنساني لمآسي الحرب الأهلية الإسبانية، سواء بالضفة الإسبانية أم بالضفة المغربية.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 26/05/2023