«درب الحاجب»: من الحاجب وما المحجوب؟ أحمد المديني يقول ما لا يقال وما لم يقل

هل تتذكر «درب الحاجب»؟
هل تبحث عن مكان في اللامكان؟
احزم حقائبك وقبلها كل وثائقك الثبوتية فأنت قبل زيارة «درب الحاجب»، لست أنت بعدها.
احجز تذكرتك في حافلة الوعدودي أو المرناني، لا فرق فكلها كريمات غنيمة الاستقلال؟ هل قلت استقلال؟ عفوا أقصد غنيمة استعمار.
ها أنت الآن في الحافلة التي تتبع سيارة حمدان لحريزي وهي تطوي المسافة بين البيضاء وبرشيد على طريق بوسكورة، سر إذن إلى حتفك آمنا مطمئنا إلى أن «المكان آمن يعيش فيه عقلاء، لأن كل من خارجه أصبحوا حمقى، وإلا فما معنى أن تطرد من بيتك، فإن تشبثت به اتهموك بأنك أحمق» ص606. وسيزيد اطمئنانك أكثر حينما تعلم الوجهة التي أنت موليها: بكل بساطة إنها 36 سبيطار برشيد للأمراض العقلية.
لا تجزع وأنت تتنقل في لمح البصر بين جناح بمستشفى برشيد هو ما تبقى اليوم من معلمة تؤرخ لتاريخ الجنون بالمغرب، بعد حادث احتراق أجنحته ومعها وثائق وسجلات وهويات المرضى والموظفين، وبين «درب الحاجب»بعمالة المشور بالدار البيضاء «. فأينما وليت وجهك، فثمة 36 زنقة الرازي درب الحاجب: «حي خلفي، خفي عن الأنظار..زنيقاته كثيرة وحلزونية، بيوته وطيئة صغيرة، متجاورة لصق بعضها، طلاؤها أبيض من الجير الرخيص وأبوابها خشبية هشة مستطيلة ومقوسة بلا ألوان، وبعضها بخرص حديدية في الوسط في شكل كف…» ص118. حي تحول بقدرة قادر من حي حاجب إلى محجوب.
في رحلة حمدان لحريزي لكتابة سيرته الضائعة بين المارستان ودرب الحاجب وتاريخ الأقبية والسجون، قد تضيع منا الحكاية الأصل، كيف لا ونحن اخترنا أن نركب مع المديني منذ البداية صهوة الجنون، مقرين أننا حمقى إلى أن يثبت العقل، أو نجد أسماءنا وألواننا وروائحنا في السجل الوطني للسكان أو في السجل الاجتماعي الموحد، ونطمئن إلى أننا مواطنون صالحون « لنا سكن وإذن لنا وطن»ص:593.
يكتب المديني بالعين والأثر، يكتب الذاكرة المخرومة والموشومة في الحيطان، في صوت الآذان الطالع من صفوة الروح، في سقاية الماء العمومية، في رائحة الخبز الخارج توا من فران الحومة، في حكايات الجدات وفي عرق الآباء العائدين مساء من طواحين الرأسماليين.. في نزق الشباب وأحلام الطفولة،يضبط ميزان الحكي على إيقاع طرْقات النحاسين.. على إيقاع الذاكرة. أليست الكتابة حماية للذاكرة من الصدأ ومن أرضة المؤرخين المزوين؟
في درب الحاجب» تتكئ الكتابة على صنعة روائية لا تني تحمل معول التجريب، صنعة تعي إمكانات اللعب بين الأزمنة والأمكنة بحذق، تتقن لعبة التخفي والتجلي، بين الأصل والشبيه، الوجود والمرايا، إنها لعبة الحجب والكشف.

هذه والله حكايته

تنطلق رحلة الجنون والمكان والأسماء، وتنطلق معها لعبة التخييل والخيال والواقع، بحبة مهدئ يسافر بعدها الكاتب الى بلاد الكتابة. «بلاد جغرافيتها في رأسي وحدودها مرسومة بين حذافير الأرض وتخوم خيالي». بلاد أو أرض استطاع المديني بلغة موظفة بشكل عميق وبليغ، النفاذ الى أعماق ناسها وشخصياتها فوصف غضبها، فرحها، بكاءها، نزقها، مجونها وجنونها، وصفها بشكل مركز لكن دقيق، وصف تجاوز الذوات لينسحب أيضا على الأمكنة بألوانها وروائحها وهندستها،و بروحها أولا. أمكنة توزعت بين الدار البيضاء وبرشيد.
برشيد: سينما كاميرا، سيدي زاكور، ملعب يوسفية برشيد، مقهى فرنسا، كانتينة النصارى، حي لاكار، مستشفى 36، حديقة النصارى…
الدار البيضاء: البريد المركزي، بنك المغرب، ساحة الأمم المتحدة، حمام الشيكي، مدرسة الفقيه الحمداوي، الحبوس، درب الحاجب، شارع فيكتور هيغو، دار الباشا، درب كرلوطي، درب البلدية، مارتيني…
«درب الحاجب» سفر في الزمن يدعونا إليه المديني لكنه سفر إلى الوراء …إلى 60 سنة خلت، نصاحب فيه حمدان لحريزي إلى «اولاد حريز» حيث مسقط الهوى والرأس، وحيث تبدأ حكاية ضاعت خيوطها بين سرّاد كثيرين: حمدان لحريزي، فاتح السكوري، جعفر النباش، بلعباس العسكري، الكاتب. سراد مخاتلون، ظل الكاتب يراقبهم من بعيد، وكلما زاغ قطارهم عن سكة الحكاية وعن الحقيقة، يتدخل ويمسك بدفة الحكي حتى لا يقودوه الى ما لا تحمد عقباه، دون أن ننسى ما حكته نقط الحذف الكثيرة التي تتخلل الرواية. كانت الحاجة إليها لرتق الثقوب التي رافقت قصص أناس وتاريخ حي يحتاج إلى ملء بياضاته. حكاية تشابكت مصائر شخصياتها: بوفارس، فاتح، عبيقة، الورزازية، الهراوية، الفقيه التاودي، شامة الشوافة، ميلود العشاب، عبد الواحد، الطبيب الكباص، تشابكت بمصير حي ومن ثم مدينة، فوطن.

الكتابة عن الحنين في المكان

«درب الحاجب» حكاية مع المكان ومع الحنين في المكان، لعله ما يحرك المديني في كل أعماله الروائية التي لم يستطع معها الانفلات من أسر المكان وسطوته، ما يجعلنا نجزم بأنه سيّده البطولة في هذا العمل الأخير، وجعله ينسج نولا بديعا مع باقي أقطاب العمل: الكاتب والنص والقارئ رغم أنه عقد مع قارئه تعاقدا ضمنيا بأن الرواية التي بين أيديه اختار لها تجنيسا جديدا بين الواقع والافتراض: «رواية واقعية افتراضية» «يظهر ويتواصل فيها درب الحاجب، موجودا وهو محجوب، ومحجوبا وهو موجود، مكانا وأشخاصا وحياة/ شخصيات ومصائر» ص331.
نحن صنيعة مكان ما، هكذا هم سكان «درب الحاجب» نسبة إلى صاحبه الحاجب الملكي التهامي اعبابو على عهد السلطان مولاي يوسف، حيث وهبه السلطان القطعة الأرضية التي بني عليها درب الحاجب والتي هي في الأصل هبة من يهودي يدعى بن موشي بن دحان، وتبلغ مساحتها حوالي 41.600 متر مربع، كانت عبارة عن بستان للخضراوات يدعى «بحاير لكرازم».
ارتبط هذا الحي بالحاجب الملكي التهامي اعبابو الذي كان صاحب فكرة مشروع أريد له أن ينشأ بمحاذاة مع القصر الملكي، ابتداء من سنة 1924، بنى فيه بيوتا للتأجير سميت بدرب الحاجب.
يتحدث الباحثون في تاريخ الدار البيضاء، عن هذا الحي بكثير من الحذر، خاصة وأن درب الحاجب سرعان ما تم مسحه من خريطة المدينة بعد أن صرفت في بنائه أموال طائلة وقد هدم الحي بعد وفاة السلطان المولى يوسف ومصادرة ثروة حاجبه مالك الحي التهامي عبابو، فكان استرجاع هذه الأرض لتوسعة القصر الملكي في بداية الثمانينات وترحيل سكانه قسريا إلى تراب عمالة الحي الحسني.
ترصد الرواية أجواء الترحيل، أو الاقتلاع من المكان والجذور كما لو تُرسّمُ هذا الوجود بفيض العاطفة التي تكثف حضور المكان في العقل والوجدان: «وراءكم ستبقى الروائح والذكريات والمناجاة وصبوات الليل وكدح النهار..سيصبح عمرنا مبتورا، وسنمشي أشباحا تائهة بعيون مسمولة. لمن سنقول صباح الخير وأي باب ندق عند الحاجة في نص الليل» ص429.
« هذه أرضي وهنا ترابي وملعبي. رددوا معي هذه أرضنا فراشنا وسماها التي فوقنا غطاؤنا..»ص446 وعند مشهد فاتح السكوري وهو يرابط في سطح المنزل رافضا ومتمردا لا يقبل الاستسلام والترحيل: ص490.
«كيف يُجلى من ولد في تراب ولعب تحت سمائه وشرب من مائه، وتعفر وجهه به وأحب وتزوج وأنجب البنين والبنات.. وأحلامهم الطويلة كيف يتركونها والى أين يرحلون؟» ص410
قبل أن يأتي الخبر الصاعق في ص405 :»ما تسمعو غير خبار الخير قال ليكم سيدي تخويو ليه الدار. راه اصبر عليكم هذي كدا اعوام ودابا جا الوقت باش يرجع له ملكه…»
ومن عتبة الرحيل، نعود مع بعض سكان درب الحاجب الى برشيد وبالضبط من مكان الانطلاق: مستشفى الأمراض العقلية الذي رُحل إليه من لم يقبل القرار، ليبقوا تائهين في لجة الصمت الذي أجبروا عليه ولو بالحقن والمهدئات، أو بصنع وجود لم يعد موجودا ولا تستطيعه إلا الكتابة من بوابة السيرة التي تحكي سيرة جماعية، وجرحا جماعيا لم يكن «درب الحاجب» إلا واحدا من أخاديده التي يسيل دمها أسودَ في الذاكرة.

شهداء كوميرا يعودون في 20فبراير

يحفل زمن الرواية بتاريخ طويل من الصراع مع السلطة، من صراعات ما بعد الاستقلال خاصة بين حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال والتي راح ضحيتها والد حمدان لحريزي الذي فصل من عمله بسبب انتمائه لحزب الشورى والاستقلال:
يقول لحريزي: «قال إنهم عزلوه مع آخرين من سلك القضاء الذي كان يعمل فيه ببلدة برشيد..» ص26.
وهنا يعود حمدان لحريزي بنا إلى حالة الاحتقان بين الأطياف السياسية الرئيسية بالمغرب آنذاك، خاصة بين كل من هذين الحزبين ، احتقان أذكته رغبة بعضهم في «الاستحواذ» على المناصب والمسؤولية غداة الاستقلال، فحدثت الاغتيالات بعد تأسيس أول حكومة في 1956، وهو ما كتب عنه المؤرخ عبد الهادي بوطالب في كتابه «نصف قرن في السياسة»، قائلا «إنها فترة تاريخية لا أذكرها إلا ويعتصر الألم فؤادي لهول فظاعتها».  فترة لم يسُد خلالها إلا منطق الوزيعة و»لي دا شي داه ولي زلق جا على عين قفاه».
حمدان أيضا شاهد على عصر تسيدت فيه لغة القمع التي لم تفرق بين طفل وشاب، رجل وامرأة، حين اندلعت أحداث 23 مارس 1965عندما قُتل المئات من المتظاهرين، بعدما احتج تلاميذ الثانويات على قرار قاض طرد عدد من التلاميذ لاعتبارات عمرية، القتل الذي قامت به قوات الأمن والجيش كان سابقة في تاريخ المغرب المستقل، حيث أقدمت القوات العمومية على رمي المتظاهرين بالرصاص. شاهد وثق تلك اللحظات كما يتطلب ذلك عمله بمصلحة تقييد النفوس: «نسيت أنك قضيت شهورا تقيد أسماء المتظاهرين والمخربين ومن تم حصدهم وإغراقهم ورمي جثتهم في بحر عين الدياب وسيدي عبد الرحمان.. حفروا وطمروهم وارتاحت المدينة» ص: 35/36. وعلى لسان فاتح السكوري يكتب:» في زقاق بدرب اليهودي قرب ثانوية فاطمة الزهراء والجنود يطاردون التلاميد ببنادق. من وقع منهم في الطريق ضربوه بكعوب أحذيتهم الغليظة وغرسوا فيه خناجر ناتئة من رأس البندقية» ص 489.
لا تعبر الرواية أزقة» درب الحاجب» إلا واستوقفتها أحداث وصور موشومة على الأجساد، متلبسة بالأرواح، أرواح يثقلها ظل الماضي، ماضي الانتهاكات والقمع الذي كانت تقابل به المطالب الشعبية والنقابية، فها أصوات القتلى يسمع أنينها خارجا من الحيطان، يحكي عن انتفاضة 21 يونيو 1981، بعد أن دعت نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل الى إضراب عام احتجاجا على رفع الحكومة لأسعار المواد الأساسية.
«وصلتنا الأخبار أن منطقة درب السلطان دكاكينها عن آخرها مغلقة شنت الإضراب. دعت إليه ىالنقابات احتجاجا على الغلاء..» ص 225 :
«كانت أحياء البيضاء الشعبية محاصرة كلها والقوات العمومية والعسكرية تجوب الشوارع وتعتقل وتضرب بلا تمييز، ولم تفارق القوة درب الحاجب تطوف تهدد كل من يخبئ مساخيط الملك» .263
«لكن الرصاص تطاير فوق رؤوسنا فانبطحنا وقفزنا الى الرصيف الثاني المقابل للقصر» ص263
«كم جعنا وبقيت بيوتنا مفتوحة مع قلوبنا .نفرح ونبكي جماعة، ونتعرض للضرب أيضا جماعة كما حدث في 1981 لما هجمت القوة علينا وكسرت أبواب بيوتنا ورفست أمهاتنا .انتزعت منهن أبناءهن لأنهم تظاهروا من أجل الخبز» (507).
دموع وجراح وأعطاب بالأرواح والاجساد ، لاتزال تؤثث ذاكرة البيضاويين، كما جل المغاربة، فهل استطاعت هيئة الإنصاف والمصالحة التي أحدثت في 2004، لكشف ماضي انتهاكات حقوق الإنسان في المغرب من 1956 إلى 1999 ، محو جراح الماضي وسد ثقوب الذاكرة المعطوبة التي تنز بقروحها وصديدها، هل نجحت حقا في رد الاعتبار للضحايا وجبر الأضرار وصيانة الذاكرة الوطنية وتحقيق المصالحة ؟
يقول الراوي عن هذه الفترة في ص 30:» كنا حسب الخطاب الرائج وما اشتهر في منصات عمومية سميت اجتماعات علنية أنه تم وضع حد والحمد لله لسنوات الرصاص..يمكنك أيضا ولمن يعبر الشارع وهو بلا شغل وأراد أن يتسلى بسماع بعض الحكايات عن تعذيب البشر أو نسيانهم سنوات في غياهب المجهول،أن يحضرها كما يحضر حفلا أو مسرحية..» ليضيف: «ضحك بدوره من استحضار صور كانت التلفزة الوطنية تسبق الزمن في عرضها لتبين حسن نية عهد جديد من الحكم أن يصفي تركة سابقة عليه « ص31.
تركة يجزم لحريزي أنها لم تصفَّ بشكل نهائي، فها قد جاء الربيع العربي في 2011، وانبعث شهداء كوميرا من رمادهم ومن قبورهم المجهولة يقودون حركة 20 فبراير، وها هو يعود الى عمله القديم الجديد:»أمامي ملف ضخم وضعه السيد عامل المدينة بنفسه فوق منضدتي بأسماء جميع الذين تظاهعروا واحتجوا وفاهوا بكلمة واحدة في مناسبة 20 فبراير. مطلوب مني أن أرشمهم برموز خاصة لنواصل مراقبة حركاتهم وسكناتهم «ص110).
إنها آلة المخزن التي لا تكف عن الدوران، في درب الحاجب، في مولاي بوعزة، في جرادة، في… تختلف الأمكنة والآلة واحدة. وفي كل مرة تطحن وتسحق وتستعيد لمعانها ونظافة يدها .
وأخيرا، هل تتذكر «درب الحاجب»؟
لا أظن. إذن فقد وقعتَ في فخ المديني ولم تخرج كما دخلت. كل شيء محجوب إلى حين. ألم يغامر منذ البداية عندما قرر أن يكتب عن «درب الحاجب»، غامر بالكتابة «عن العدم، الغياب، البياض، البدد»(331).
إنها لعبة الكشف والحجب. لا تخفي إلا لتُظهر ولا تُظهر إلا لتقول ما خفي أو أُخفي وأريد له أن لا يقال، لكن المديني شق عصا الطاعة وخرج من «رونضته» هذه المرة ليقول ما لم يقل وما لايقال.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 02/06/2023