بين التاريخ والرواية جسر

«جزيرة الغروب» وعوالمه العجائبية

 

إذا كان تطور أنساق الكتابة الروائية الإبداعية المعاصرة قد انتهى بتكريس توجه عام نحو الاحتفاظ بمسافات واسعة بين نزوات الذات المبدعة من جهة، وبين مضامين القيم الإنسانية المكونة للمخيال الجماعي من جهة ثانية، فإن هذا التطور أفضى إلى إعادة ضبط منطلقات الرؤى في التعامل مع المعطيات التاريخية، وفي طرق إدماجها داخل بنية السرد المتخيل. ومن جهته، لم يعد المؤرخ ينظر إلى مضامين النصوص الروائية من زاوية الحكم المنهجي المدرسي الصارم القائم على أساس ربط هذه النصوص بأبعادها التخييلية الواسعة ونزوعاتها الفردانية الضيقة، بل أضحى منفتحا -أكثر من أي وقت مضى- على فك طلاسمها بالنظر لإيمانه بقدرتها الاستثنائية على التوثيق لقضايا محورية في الكتابة التاريخية المعاصرة، مما لا يمكن القبض بأصوله المادية ولا بسياقاته الزمنية ولا بشواهده المتوارثة، مثل نظيمة الرموز والقيم والتمثلات والأحلام والمواقف والمعتقدات والأحاسيس والمشاعر. لقد قيل الشيء الكثير عن علاقة التاريخ بالإبداع الروائي، واشتغلت مدارس النقد التاريخي على الموضوع من منطلقات منهجية صرفة. ومع ذلك، ظل المؤرخ بعيدا عن استثمار مكنونات النصوص الإبداعية الروائية، اقتناعا منه بمهاوي خضوعها لجاذبية الاستجابة لنهم الذات المبدعة في سعيها نحو تحقيق نشوة الكتابة المتحررة من القيود المنهجية الصارمة، والمحتضنة لمشاعر الذات ولعواطفها ولمواقفها، وقبل ذلك، لنزواتها الحميمية المغرقة في ذاتيتها.
وإذا كانت هذه الرؤية عمرت طويلا، وجعلت المؤرخ بعيدا عن استثمار عطاء النصوص التخييلية، فإن تطور مناهج البحث التاريخي المعاصر فرضت عودة علمية لتقليب عناصر خصوبة عطاء النص الروائي، من منطلق ارتباط هذا النص بتطور حقول درس التاريخ وانفتاحه على مواضيع غير مسبوقة وعلى قضايا غير مطروقة داخل الإسطوغرافيات التاريخية التقليدانية المتوارثة، مثل قضايا تاريخ الذهنيات، ونظيمة القيم الرمزية، وعطاء التراث اللامادي، ومنظومة المعتقدات التعبدية، وطقوس الخرافات الغيبية. اقتنع المؤرخ بأهمية الانفتاح على مثل هذه القضايا، بالنظر لمكانتها المركزية في صنع المواقف وفي تفسير السلوكات الفردية والجماعية، إضافة إلى أنها قادرة على التوثيق لما لا يمكن التوثيق له في سياق الكتابات التاريخية التخصصية في معناها الحصري الضيق. ولعل ذلك ما جعل الكثير من رواد البحث التاريخي الوطني المعاصر ينحون، ليس -فقط- نحو تنظيم اشتغالهم على النصوص الروائية الإبداعية، بل وينخرطون في مغامرة إنتاج نصوص على نصوص، وعوالم على عوالم، ومحكيات على محكيات، بيقين ثابت حول أهمية النص الروائي وحول ممكناته الرحبة لقول ما لا يمكن قوله داخل متن النص التاريخي الحدثي بأبعاده التقنية الصارمة. ونستدل في هذا المقام، بالأعمال الروائية -على سبيل المثال لا الحصر- لكل من عبد الله العروي في نصوص مثل «الغربة» و»اليتيم»، وأحمد التوفيق في نصوص مثل «جارات أبي موسى» و»السيل»، ومحمد زنيبر في نصوص مثل «الهواء الجديد» و»خطوات التيه» و»عروس أغمات» و»بين صوتين».
أما بالنسبة للسياق الأوربي المشتغل على الموروث المغربي، فقد أنتج رصيدا هائلا من الكتابات الإبداعية -والفرنسية تحديدا- المشتغلة على الصور العجائبية للمغرب العميق المتوارث عن العهود السحيقة. وتكرس هذا المنحى بتزايد مستوى الانبهار الغرائبي بفرعيه الكولونيالي المرتبط بسياقات الغزو والاحتلال، والمابعد كولونيالي المرتبط باتساع دوائر تجاذب صراع «الهويات القاتلة» وسطوة خطابات «المركز والهامش» داخل السياقات الجيوستراتيجية العالمية للزمن الراهن. وعلى الرغم من أن هذه الكتابات ظلت مخلصة لكليشيهاتها النمطية في إثارة النزعة الغرائبية لدى المتلقي الأوربي بالنظر لجاذبيتها المرتبطة بعجائب عوالم «ألف ليلة وليلة» الفاتنة، فقد ظلت تحمل عناصر مركزية في رصد إبدالات التمثلات الفكرية العميقة التي يحملها الغرب المطمئن ليقينياته تجاه الشرق الفاتن، الساكن، المؤمن بفطرته. أصبحت هذه الكتابة ملاذا نفسيا أثيرا للباحثين عن الطراوة وعن الغيرية وعن العمق، وتعزز ذلك، بتجاوز سياق الأهداف الكولونيالية الفاقعة المرتبطة بتدافع المصالح الدولية خلال القرنين 19 و20. ونتيجة لذلك، أصبحت العودة نحو الاشتغال على «بقايا صور» عوالم ما وراء البحار، أفقا مشرعا أمام أسئلة الإبداع وأمام نهم الذات المفتتنة بمباهج «الآخر» حيث الفطرة والأصل، حيث الإثارة والإشباع، حيث المسارات المشرعة على العوالم العجيبة التي ينهض عليها تاريخ الشعوب الأصلية.
في سياق هذا التصور العام، يندرج صدور رواية «جزيرة الغروب» لمؤلفها جيلبير سينويه، سنة 2021، ثم ترجمتها العربية سنة 2022، بتوقيع الباحث والمترجم محمد جليد، وذلك في ما مجموعه 296 من الصفحات ذات الحجم الكبير. اختار المؤلف في هذا العمل الاشتغال على رصيد التراكم الهائل للوقائع التي عاشها المغرب تحت حكم السلطان مولاي إسماعيل، وما ارتبط بهذه التجربة من مرويات، بل ومن أساطير، نجح المخيال الجماعي الفرنسي في تحويلها إلى بؤرة لإنتاج نصوص تخييلية متواترة، اكتست طابع التنميط في الغالب الأعم، لكنها تظل مشبعة بالكثير من التفاصيل الدقيقة المنفلتة من بين متون الكتابات التاريخية الكلاسيكية المهتمة بالجوانب الرسمية لتطور الدولة والمجتمع. وبذلك، نجحت في إثارة الانتباه نحو الكثير من الجزئيات التي لم تكن تثير أدنى اهتمام لدى المؤرخ التقليدي بحكم انتظامها خارج سياق السرد التاريخي التقليدي العالم. تشتغل مضامين الرواية على أحداث النصف الثاني من القرن 17 والنصف الأول من القرن 18، بما حملته من تحولات عميقة على بنى الدولة والمجتمع، مما ساهم في رسم مسارات مغرب العقود الموالية، بأسئلتها المتداخلة وبتداعياتها المركبة وبامتداداتها الراهنة. وفي إطار هذا المسار العام، لم يكتف المؤلف بتجميع الوقائع المرتبطة بمرحلة حكم السلطان مولاي إسماعيل، بل امتد عمله إلى خلق نوع من التراوح والانتقال في الزمن، لاختراق العصور وللانفتاح على الوقائع الممتدة في الزمن، القديم منه السابق عن دخول الإسلام لشمال إفريقيا، ثم اللاحق منه بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل. ولعل هذا ما اختزلته الكلمة التصديرية للترجمة العربية لنص الرواية، عندما قال الأستاذ محمد جليد: «جزيرة الغروب هي الجزء الأول من ثلاثية روائية يخصصها الكاتب جيلبير سينويه لتاريخ المغرب ما قبل الاحتلال الفرنسي- الإسباني. وهي تتناول شخصية السلطان إسماعيل وتحديات حكمه، في زمن اشتدت فيه القلاقل الداخلية والتحرشات الأوربية والعثمانية بسيادة البلاد. في ظل هذا الوضع المتأزم، سيحاول السلطان اجتراح المستحيل، إذ سينجح في إخماد انتفاضات القبائل، وتمردات المقربين منه، وفي تحييد الإمبراطوريات الأوربية الكبرى. ينغمر قارئ الرواية في رحلة إلى اتجاهات تاريخية متعددة، عبر رؤية كاسيمير جيوردانو، هذا الفرنسي الذي اتخذه السلطان طبيبا شخصيا له. لا يكتفي كاسيمير بسرد الحقبة التي عايشها، بل يرتحل، ذهابا وإيابا، بين عصور وشخصيات متعددة: مملكة الأوراس، المماليك المغربية المتعاقبة (الأدارسة، المرابطون، الموحدون، المرينيون، الوطاسيون، السعديون، العلويون)، ديهيا، إدريس الأول، زينب النفزاوية، السلطان إسماعيل، لويس الرابع عشر… والغاية من ذلك محاولة استكشاف كيان ذي طبيعة خاصة في هذا «الشرق» المضطرب».
ينهض هذا «الشرق» في نص الرواية متنافرا، ليقدم صورا تختزل مجمل القراءات والتمثلات التي راكمها الفرنسيون تجاه المغرب الإسماعيلي. يحضر التاريخ قويا، ويحضر السرد العجائبي مثيرا. يحضر السلطان كموجه للأحداث العامة، وتحضر الامتدادات السابقة واللاحقة لعصره كنقاط محورية في توجيه الوقائع الكبرى الحاملة لمضامين التحول أو التغير في الأنساق المعيشية وفي المواقف السياسية والثقافية والاجتماعية للفرد وللجماعة. يحضر التاريخ قويا، ليوفر الأرضية الضرورية للسرد وللتدوين. ويحضر فعل التخييل الرحب ليوفر للذات المبدعة أقصى درجات الخلق والحكي المشبع للنزوات المبدعة أولا ولانتظارات القارئ والمتلقي ثانيا.
يسمح نص «جزيرة الغروب» بإعادة أنسنة القضايا المركزية في تجربة السلطان إسماعيل، مما يفتح آفاقا رحبة أمام المؤرخ المتخصص في تاريخ الذهنيات من أجل توسيع دوائر أسئلته التفكيكية لمنغلقات الإسطوغرافيات التقليدانية، العربية والكولونيالية. وتلك قيمة معرفية أكيدة لا شك وأنها تعزز جهود البحث التاريخي المهووس بالشواهد المادية المفسرة للمواقف وللرؤى وللوقائع. وبطبيعة الحال، فإن هذا المسعى العلمي الواضح، يتكامل مع توجه القراءات الأدبية النقدية نحو التنقيب في قيم النص المخصوصة، على مستوى تقنيات السرد والتأويل والاستعارات…
من جهة أخرى، لا يمكن الحديث عن قيمة نص «جزيرة الغروب» بدون الوقوف عند الجهد الكبير الذي بذله الأستاذ محمد جليد في ترجمة النص الأصلي. لقد أثمر هذا الجهد، عودة مضامين السرد إلى بيئتها الأصلية، باستثمار البعد الاحترافي للعمل الذي اشتغل على لغة راقية، أفقها متن سلس، وأدواتها نبش دقيق في الألفاظ وفي الاستعارات، وركيزتها الاستناد إلى معارف متنوعة وتخصصات متقاطعة، ومنتهاها الوعي بمحدودية بعض سياقات السرد أو اضطرابها. يقول محمد جليد بهذا الخصوص: «استلزمت ترجمة هذه الرواية العودة إلى بعض المصادر التاريخية حول الفترة الموصوفة في الرواية، وكذا استشارة أهل الاختصاص، من أجل تبين الالتباس الناتج عن قصور الوثيقة التاريخية، أو عن المسكوت عنه في التاريخ. وكان من أبرز ما توصلت إليه هذه العودة أن الشخصية البطلة لا تتمتع كلية بالصفات والخصائص الموصوفة، وأن سرد بعض الأحداث شابه بعض الخلط أو الارتباك، وأن الرواية سكتت هي الأخرى – في ما يشبه نوعا من الرقابة- على فترة طويلة من مداها الزمني الممتد على ما ينيف على نصف قرن…» (ص ص. 295-296).
وعلى أساس هذه الرؤية الفاحصة، نجح محمد جليد في تقديم نص عربي شيق يعيد مساءلة الكثير من القضايا اللامفكر فيها في علاقة الثابت بالمتغير داخل تحولات الدولة والمجتمع بالمغرب الإسماعيلي. وفي ذلك، انفتاح على رؤى «الآخر» تجاه الواقع المغربي وتجاه ماضيه بحمولاته المتداخلة، وبأسئلته الهيكلية التي لاتزال ترخي بثقلها على الكثير من منغلقات المرحلة الراهنة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 09/06/2023