في آخر إصداراته في حقل العلوم السياسية، يشتبك الأكاديمي المغربي حسن أوريد في كتابه «الشعبوية أو الخطر الداهم» مع أورغانون جديد بدأ يفرض نفسه على مُحللي العلوم السياسية. القصد هنا ينصرف للحديث عن أورغانون الشعبوية. مأزق سياسي يُنذر بحدوث تحولات عميقة، وخطاب يتهدد السرديات الكبرى…تحيل الظاهرة في مصفوفات العلوم السياسية على حالة من حالات الارتباك السياسي الذي بدأ يقوض مكتسبات الاجتماع الانساني في عالم اليوم. من حق البعض، أن يتوزع طرائق قددا في التعبير عنها؛ يعتبرها البعض عَرَضا من أعراض شيخوخة الديموقراطية وتوعكها، وينظر إليها البعض الآخر كعنصر جذب وحيوية يعيد السيادة إلى الشعب.
تنتعش الخطابات الشعبوية في العوالم التي تعيش حالة تردٍّ اقتصادي واجتماعي. عالمنا اليوم عالم مُثخن بالأورام والأعطاب. نستعير هنا على سبيل التوصيف عبارة جد موفقة من الباحث الأمريكي ذي الأصول البلغارية إيفان كراستيف Ivan Krastev «عالم الكآبة الوجودية».
تُعبر الشعبوية من حيث تاريخانيتها عن لحظة انزياح اعترت مدارات الاجتماع البشري منذ عام 2008. لحظة قلبت المقولة الشهيرة التي كانت تقول: «إنه الاقتصاد» بمقولة تقول «إنها الهوية». أفلا تكون الشعبوية بالتحديد هي لحظة العبور من التركيز على الاعتلالات الاقتصادية إلى لحظة التركيز على خطابات الهوية والعرق والتاريخ…؟
لكل تحول سياق يقتضيه. منذ أزمة 2008 بدأت ترتسم معالم التحول أو الانحدار، لكن جذور التحول تأتي من بعيد. الراهن الإنساني لما بعد 2008 راهن تطبعه إغراءات الخطاب الشعبوي. لا يجب أن ينصرف القصد نحو حديث عن عرَض عابر وظرفي، بله عن جوهر ومرتكز بنيوي. لقد تسرعت بعض القراءات السياسية حينما اختزلت الشعبوية في عودة السيادة للشعب. التجارب المعاينة تفيد عكس ذلك. واضح من خلال افتحاص هذه التجارب أنها تدفعنا لأن نقر بأننا إزاء خطابات تحمل تناقضات في ذاتها، بين ما تدعو إليه، وبين ما تريده وتبتغيه. تنتقد الديموقراطية الشكلية وتعادي أصحابها، لكنها ترسخ لسلطوية مبينة على شخصية الزعيم المُفوه الخطابي. وبهذا فالشعبوية تكون هي محاولة لإعادة الفاعل السياسي إلى ركح التاريخ واستبعاد البنية والنسق.
الشعبوية التي نصادفها في كتاب أوريد هي بالأساس ممارسة ومنظومة عمل وفق التعبير اللاتيني الشهير Modus Operandi. تعبير عن أزمة متعددة الرؤوس، أو لنقل هي عرَض لداء يتهدد الرابط الإنساني ويقوض بُنيانه. الشعبوية التي يستجليها حسن أوريد هي شعبوية مُخاتلة، سكيزوفرينيا، تُحيل على الخوف، وترسم متخيلا طوباويا في آن؛ الخوف من حدوث الاهتزاز الكبير Le Grand Bouleversement الذي يتجاوز مرجعية السرديات؛ وطوباوية تؤلف وتجمع مشاعر فئات واسعة من المقهورين باستعارة من البيداغوجي البرازيلي باولو فريري من أجل استعادة السيادة المفترضة.
تنتعش الشعبوية في البيئات التي تتباعد فيها شرائح المجتمع وترتسم فيها معالم الانفصام الاجتماعي La fracture sociale وتبرز داخلها صخب الأسئلة الثقافية التي تهم الهجرة والإرهاب والتغير الديموغرافي بين الأجيال…منطلق معظم الحركات الشعبوية فكرة بسيطة تعتبر أن الغرب بمنظومته الفكرية مسرح لحروب ثقافية تتهدد قيمه وأفكاره. وتُنبه إلى الخطر الداهم الذي يتأتى من الآخر المختلف عنه، وتدعو إلى خوض حروب استرداد Reconquista جديدة دفاعا عن المنجز الفلسفي الغربي.
طبيعي أن نصادف في وسائل الإعلام أحزابا يمينية أو يسارية تدعو إلى التخلص من المهاجرين في حملاتها الانتخابية. طبيعي أن يكون لهذه الأفكار صدى وسط النخب السياسية وحاضنة اجتماعية…والأساس، لا تتأتى خطورة الشعبوية من سرعة انتشارها في زمن الميديا، بله من طبيعة النزوع العدواني الذي تحمله في جوف خطابها الذي يحيل على الإقصاء. على هذا، فشعبوية القرن الواحد والعشرين هي ترميز لحالة من حالات التوعك السياسي الذي يعتل الديموقراطية ويعيد النقاش حول أفقها السياسي. تدعو الشعبوية إلى تمجيد التاريخ واللغة والعِرق وإلى ازدراء الآخر…وإلى توسيع مساحات التاناتوس Thanatos على حساب مساحات الإيروسEros على النحو الذي نلتقيه في تحليلات سيغموند فرويد في كتابه «توعك الثقافة».
لا تُقدم الشعبوية بديلا في التاريخ، بل تزيد من تعميق دروبه ومسالكه. كل التجارب السياسية التي انتعش فيها الخطاب الشعبوي آلت نهايتها في يد «قائد مخلص» عطَّل المؤسسات، وأزاح النخب، ونقض الديموقراطية، وشيد سلطويته الجديدة…الشعبوية من خلال هذه التجارب هي هدم وبناء، هدم بناء قائم وولادة سلطوية جديدة…هي بنية سياسية جديدة لا تتحرج في الاشتباك مع دوائر الإعلام والمخابرات والمجتمع المدني من أجل الوصول إلى السلطة…الحديث هنا عن اتجاه وليس عن ظاهرة، اتجاه نجد بعض تعبيراته في تجربة حزب الجبهة الشعبية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2002، وبعض تجلياته في التجربة الإيطالية مع حزب «فورتزا الإيطالية» Forza Italia عند بيرلسكوني، وفي صورة أكثر اكتمالا مع دونالد ترامب في أمريكا وجاير بولسونارو في البرازيل…وفي أشكال أخرى تتمدد في كل أرجاء العالم، في كل من المجر والسويد والهند…
فكرة الكتاب تتأسس على أن الشعبوية هي ممارسة وأسلوب وليست سردية مُشيدة وفق متن منتظم. وفقا للحالات التي تمت معاينتها، لا تستند الشعبوية إلى سردية واضحة يمكن تشريح عناصرها. ترفع شعارات بميسم هوياتي وقومي واضح مثل «أوروبا أولا» أو «»أمريكا أولا» تستعدي الآخر وتُقوض براديغمات الاختلاف والتنوع. الشعبوية تظهر هنا وكأنها حصاد لمرحلة زيغ النيوليبرالية حينما ارتمت في هوى اقتصاد السوق.
تأوي الشعبوية في نسغها ممارسات هجينة وهي ترسم الأحلام الطوباوية لدغدغة المشاعر القومية وبعث الفانتازمات من جديد. والملاحظ، أن لكل شعبوية سياقها الخاص، ولكنها تبدو موحدة من حيث الأفق. وفي مستوى أعلى، يتعلق الأمر بمسار تاريخي شاذ يُقوض المكتسبات ويعود بالبشرية خطوات إلى الوراء بانبعاث جديد لفاشية القرن الماضي أو لمتحور عنها !
المؤكد أن الخطابات الشعبوية لا تتأسس على متن أيديولوجي، ولا سردية ناظمة، لأنها تخاطب الغرائز التي توقظ الانتماءات الهوياتية والاستيهامات الطوباوية، بمعنى أن الشعبوية هي كزيونوفيا تستعدي الآخر وتقلص مساحات التعايش وتدبير الاختلاف. لقد سبق للمفكر الهندي كاس ماد Cas Mudde أن وصف الشعبوية بكونها «سردية نحيلة تُقوض السرديات الدسمة» التي أنتجها تدافعات الفكر السياسي.
يعرض الكتاب، هنا للأوجه المتعددة التي ينسجها الخطاب الشعبوي، ويعمد إلى سل الخيوط الرقيقة التي تعمد إلى ربط الشعبوية بالفاشية. تنتصر مقاربة الكتاب لرؤية واضحة تعتبر أن الشعبوية هي إحدى أعراض توعك الديموقراطية، لكن قد تكون دواءه الذي يعيد إلى الشعب سيادته. ولئن كان السياق العام يسير نحو أن يتلبس بالشعبوية في كل مناحيه، كان لا بد أن يشتبك الكتاب مع سؤال الانتماء: هل يسلم العالم العربي من إغراءات الخطاب الشعبوي؟ أفلا تكون هنا غطاء للسلطوية؟ وأي تفسير لتزامن انتعاش الخطابات الشعبوية مع لحظات الاهتزاز الاقتصادي والسياسي؟ وأية نسج يربط بين الشعبوية والتفاهة؟
يتألف عُمران الكتاب من توطئة متبوعة بخمسة أجزاء، يتناول الجزء الأول جذور الشعبوية وأشكالها، ويعرض الجزء الثاني لتداخلات الشعبوية مع العولمة، ويصرف الجزء الثالث جهده لتحليل أشكال الشعبويات، ويتتبع الجزء الرابع القواعد الناظمة للشعبوية، ويشتبك الجزء الخامس مع إغراءات الشعبوية في العالم العربي من خلال تحليل التجربة التونسية. وعبر هذه الأجزاء، يلتقي القارئ مع مسار تاريخي طويل جدا يظهر الشعبوية كما لو أنها حلقة وصل وامتداد لمسارات أنتجت الشمولية والعولمة والنيوليبرالية والراديكالية الإسلامية…هنا تظهر قوة المقاربة التي شُيد عليها معمار الكتاب، من حيث التوسل بالحفر التاريخي لفهم الأصول والامتدادات . حينما أصابت أزمة الخميس الأسود 1929 الأداء الاقتصادي للنظام الرأسمالي، سار الغرب في ركاب الفاشية وجرى نحو حرب مدمرة، وحينما حلَّت أزمة 2008، سار الغرب نفسه نحو منحى شعبوي بدأت معالم عالم متعدد الأطراف تتشكل في الأفق. النتيجة: لحظتان تاريخيتان، لكن بنفس الأفق.
بالنهاية، الشعبوية ظاهرة بنزوع كوني واضح جدا، تتهدد البناء الديموقراطي وتسعى إلى تقويضه، وتدفع لتشييد تصورات مانوية متقاطبة. تبدو طوباوية حينما تطرح فكرة العودة إلى الشعب واستعادة السيادة. طوباوية مُخاتلة على الأصح، لا تنظر إلى المستقبل، وإنما تسكن في أروقة الماضي وما يكتنفه من حنين، طوباوية من غير متن وسرد إيديولوجي مؤسس. تخاطب الوجدان والعاطفة، وتنسج خطابا يقوم على «وباء الحنين» كما تسميه بويم سيفتلنا Boym Svetlana . يعيش الغرب حالة تمزق وجداني، ويجد نفسه اليوم أمام مأزق حقيقي: إذا انكفأ على ذاته، فإنه يرسم معالم اندحاره الاقتصادي، وإذا انفتح مجتمعيا فإنه يهاب فقدان هويته الثقافية…الغرب يعيش اليوم الموجة الثالثة من الشعبوية. مع وصول حزب «أخوة إيطاليا» إلى السلطة بزعامة جورجيا ميلوني ظهرت هذه الموجة الثالثة بعد البريكسيت وانتخاب ترامب. أوروبا الآن تشيع شعبوية ببُعد هوياتي تستند على فكرة أوروبا البيضاء والمسيحية وازدراء الآخر.
في التجربة التونسية تبدو الشعبوية في مرحلة تشكل أولي. ترتكز على محورية القائد. التركيز على الأسلوب والخطاب من «قائد ملهم»، مُفوه وخطابي يقدم نفسه مُنقذا للوضع…لكن على مستوى المآل، شعبوية تتغطى بغطاء دستوري يُركز الصلاحيات في يد الرئيس، يُضعف السلطات، يتهدد المؤسسات، وينقل مسار دولة من شعار «الشعب يريد» إلى «الرئيس يريد»…لا تعتبر الحالة التونسية حالة عَرضية فقط، بل حالة ممتدة نحو باقي دول العالم العربي الذي بدأت تجرفه اغراءات الشعبوية، لكنها شعبوية أولية غير مكتملة على غرار التجارب الأخرى المعاينة في الغرب. تبدأ الشعبوية في العالم العربي بالتماهي مع بنيات الدولة العميقة والمؤسسات الأمنية والصحافة ومؤسسات الوساطة الاجتماعية…وتنتهي إلى شعبوية سلطوية.
لكل زمان شعبويته، وكل شعبوية هي نتاج خصوصيات بيئتها، متأثرة بمنشئها السياسي، ونسغها التاريخي. وبعبارة مادلين أولبرايت هي عرَض لأزمة، وتعبير عن لحظة وَهن ديموقراطي. قد تكون لحظة عابرة في التاريخ مثلما يدافع عن ذلك الباحث الإيطالي أوزو ترافرسو Euzo Traverso لكن بجروح عميقة، وقد يرى فيها البعض الآخر شكلا من أشكال الشمولية التي تفتح مسار البشرية على اشتباكات قادمة…
بالنهاية، ينتصر الأكاديمي حسن أوريد إلى أن شعبوية القرن الواحد والعشرين هي مؤشر على وجود أزمة ومأزق، وهي بالأساس، مدخل رئيس لفهم تجليات الفعل السياسي وتشابكاته بين العَرَض والسبب، بين الظرفي والبنيوي، بين المأزق والبديل…
الشعبوية: الأورغانون الجديد
الكاتب : عبد الحكيم الزاوي
بتاريخ : 23/06/2023