1 ـ عن «عولمة الثقافة» و»الاستلاب الثقافي»؟
( في مجال النظر الفكري الخالص كثير من كبريات القضايا المقامة على مغالطة المعاني أو الثاوية وراء مخاتلة اللغة ومكر الخطاب، لا يفكك تلبيسها إلا السؤال الساذج كتلك السذاجة التي نلج بها خيمة الفلسفة) ـ عبد السلام المسديـ
ـ يجدر النظر الآن بعين واحدة، والذهاب إلى القول، أن الثقافة والعولمة يفترقان. أما ما يجمعهما فأكبر من الفرقة ذاتها. إذ يشكلان عقلا مكتمل الأركان والبنيان. أولا، في تمثلهما لطبيعة الحيز والمضمار الذي يشغل وحدتهما في المعرفة والتداول الفكري والانتماء للعالم. وهو شق يتغافل عنه أصحاب التخصص والاعتبار، مع أن مقاربته من الزاوية المسكوت عنها، هو أصل الجدل والنقاش المنتشر.
وثانيا، في انتقالهما من مجرد واجهة للترميز والاسباغ بالهوية والتحدد بطبيعة الثقافة، إلى تشكل رؤية بالشراكة، تضع العلامات وتصفها وتتحول بها ومعها إلى موطن إنساني وكوني ينثني على مجموعة أنماط وخلفيات سياسية واجتماعية ونفسية وحضارية.
لماذا تتحيز مفهومية الثقافة لكل ما هو شمولي. في قصديتها لقراءة العولمة، وفي تبديلاتها للفروق الشاسعة والمناورة التي تضعها الثقافات المعولمة، على إيقاع «السلطة السياسية « «ومنظومات العولمة الأخرى والموازية» أو ما يطلق عليها أحيانا ب» العولميات الدولية»؟.
إنه كثيرا ما يثار مشكل التعريف السوسيولوجي لـ»العولمة الثقافية»، هل تحدده «عملية توحيد السلع الثقافية المستهلكة في «القرية العالمية»، أم التأسيسات المرجعية الموحدة لتلك السلع المنظورة الخاصة ب «التعبيرات الثقافة ، والتنوع الثقافي ، والخصوصية الثقافية ، والتعددية الثقافية».؟. بالإضافة إلى ما يمكن تعميمه حول ما تولد عن هذه المفاهيم ، مثل الجغرافيا السياسية أو الحكم»» أو «الثقافة المفرطة».
يستبصر الباحثان الفرنسيان جان تارديف وجويل فارشي في كتابهما المشترك «تحديات العولمة الثقافية»، الصادر بباريس عام 2006، أشكال تنظيم التقابلات بين الثقافة والعولمة، من منطلق طرح أسئلة محورية، حول ماهية المساحات الجيوسياسية الجديدة الناتجة عن العولمة، في ضوء الديناميكيات العالمية الراهنة، وكيف تتطور الثقافات المختلفة واستراتيجيات مقاومة الهيمنة الثقافية، مع تسليط الأضواء حول تداعيات تكثيف التبادلات الدولية ومخاطر التجانس الثقافي؟؟.
ويرى الباحثان، أننا بإزاء هذه الأطاريح المتشعبة، مازلنا نتعامل مع العولمة الثقافية من منظور شبه نقدي أو شبه بناء، مشككين في الآن ذاته، فيما إذا كنا نواجه شكلاً استطراديًا جديدًا، مثيرين أشكالا من المذهبيات الشائعة، المرتبطة بالأمركة والتسليع والإمبريالية.
وكيفما كان الأمر، فإن التعامل مع موضوعات «الأمة والهوية الوطنية والسيادة «باعتبارها بنايات رمزية للخيالات الإبداعية أو اليوتوبيا، هو ما يفرض، حسب جان تارديف وجويل فارشي، وضع السياقات المتداولة، ضمن خصوصياتها المرجعية والثقافية، بعد ظهور ما يسميانه ب» الاضطرابات الناجمة عن ظهور تقنيات المعلومات والاتصالات»، ما يفرض بالتالي، إعادة تعريف مفاهيم «المسافة والقرب» ، وفهم خصوصيات الفضاء الإعلامي والثقافي المعولم، داخل حيز رمزي يطلقان عليه «القارة السادسة».
ووفق هذا المجال، يعتبر الكاتبان أن التجانس بين الثقافة والعولمة ، لا يزال سطحيًا بشكل نسبي، بل إنه يمثل خطرًا أقل بكثير من التهميش الخبيث للمساحات الجغرافية الثقافية الأخرى.
ومع أن انفتاح العولمة على عالم الثقافات سيظل عائقا في القابليات الفكرية والثقافية، وشكلا من أشكال الترويج والاستلاب والبروبجندا المضادة، إلا أن اللامركزية الموصوفة بها ستبقى أمرًا ممكنًا. وهو ما يلتقي مع نظرائهما في التنظيم لهذا التمايز الخفي والظاهر، خصوصا لدى جيرار لوكلير في كتابه (العولمة الثقافية)، وأرماند ماتيلارت في كتابه (التنوع الثقافي)، أو حتى المفكر الأمريكي صامويل هنتغتون في كاتبه (صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي).
فهل تشيح أشكال فرض عولميات ثقافية مكرسة للهيمنة والتسلط ، عن مطالب التفرد بالخصوصية الثقافية، على الرغم من تغير أنماط الاستهلاك والممارسات الثقافية ، وصمود مناحي التنوع اللغوي والديني في المجتمعات المختلفة؟ أم أن العولمة الزاحفة ستفرز أنساقا وقطائع مهجنة، تسمح بالنفاذ السلس للأشخاص والبضائع والأفكار، بما يؤمل لإشاعة قاموس «توحيد الثقافات» و»حوار الأديان» وما إلى ذلك؟، وهو المظهر السياسي الثقافي الجديد لخلاصة ما تقيم عليه الحضارة الغربية، مقولاتها المغرية لتبني نظرية التحويل الحداثي والنظام الثقافي الواعد ، وتحرير العقل واستحضار روح العصر. وهو المطمح الذي تتأسس عليه كل نظرات الغرب تجاه المحيط الإقليمي والدولي، ويمكن التمثيل هنا بأطروحات فرانتس فانون وإيمي سيزير وجان فيليب أوموتوند ، الذين يفككون مشكلات ما يسمونه ب»الاغتراب الثقافي للكاميت (السود) l›aliénation culturelle des Kamits (Noirs)؟، وما وراء فرض رؤية الغرب بإزاء ذلك، وبكل الوسائل، خصوصا في ما يخص مفهوم «الأنا الأفريقية».وعن خلفيات وجذور «العدوان عليها وما وراء ذلك؟ .
2 ـ الوجه الخفي للأخلاق والثقافة الدينية
(الديانة التي تخاف العلم لا تحترم الله، لا .. بل تنتحر) ـ رالف امرسون ـ
ـ مثلما يطالب قوم بضرورة انتهاج تربية قائمة على الحرية الشخصية وبناء المعارف بشكل ذاتي، وتصحيح نظرتنا للحرية والتقائيتها بالتعبير والرأي والتناغم العقلي والوجداني، يؤسس آخرون مبدئيتهم الفكرية في الاكتساب الثقافي الديني الأولي، خلال الانخراط المدرسي الابتدائي والثانوي، على اعتبار أن ذلك يجسد البناء العميق للمجتمع المتناغم، وشرطا أساسا في إنجاح مهمة التعليم والتربية كسلوك وبيداغوجيا إنسية أخلاقية.
والحقيقة أن المذهبين، يمثلان جدارا صلبا لمدى أهمية الدرس التربوي الديني في تمكين المتعلمين من تصحيح علاقة المعرفة بالدين، أو ما تعتمله مضامين الدستور والقانون المؤطر له، في علاقة بالمرتكز الاعتقادي للدولة والأمة، وتوفير الحماية الثقافية والتوعوية تجاهها.
يشيع المنخرطون في الانكشاف على التجارب التربوية الرائدة في المجال، على أن الواجهة الجوهرية التي يجب الالتحاف بها، والامتداد بإزاء قيمها وآثارها في التوجيه والتأطير، هو إيثار ذائقة النقد والوعي بتنظيراته على كل التشويهات الذهنية المقابلة، على اعتبار أولوية البناء الشخصي والسلوكي للمتمدرسين، واعتماد قيم التسامح واحترام الآخر داخل هذا المرمى.
وقد سبق لبيداغوجي فرنسي، يدعى إريك كورنلييه ، أن أثار هذه الخاصية التربوية، ودعا إلى تحريرها من الأيديولوجيا والتقوقع الفكري الديني. بل طالب بتحييدها عن مناهج التدريس، عبر تضمينها في مقررات الدراسة وما يلزم من انفتاح على التجارب الأخرى في الحوار والتوجيه المتدرج.
وكان كورنلييه قد دافع مسبقا على اعتماد مادة الأخلاق والثقافة الدينية، كدورة يخضع لها جميع طلاب المدارس الابتدائية والثانوية. متسائلا : هل توفر دورة الأخلاق والثقافة الدينية معلومات جيدة لأطفال المدارس الابتدائية ومراهقي المدارس الثانوية وهل تقدم تعليمًا في قيم التسامح؟
المشكل في طرح هذه النظرية، أنها تربط الطفرة النقدية على الأديان أو ما يسميها ب «الأساطير أو المذاهب الموجودة في العالم « بما هي تأسيسات حقوقية مرتبطة بالواقع الحديث للدولة الحداثية، وهو ما يعطي انطباعا خاطئا كون جميع الأديان يمكن تجميعها في سلة واحدة، ما دام جوهرها الأصيل يضمن احترام الآخرين والصالح العام ؟.
ومع أن إريك كورنلييه، يطرح سؤال «الوجه الخفي للأخلاق والثقافة الدينية» انطلاقا من تحصين مفهوم الحرية من كل أنساقها التاريخية والمرجعية، على اعتبار أن تلقين احترام العيش المشترك يولد أخلاق احترام الآخر وعقيدته وسلوكه، دون الالتفات إلى خصوصية الأديان وموقعها الثقافي والتربوي والمجتمعي، فإنه يواجه بكم هائل من التأسيسات المسبقة لتلكم الخصوصيات واصطدامها بالشعارات المحمولة على شرطية الدولة الجديدة، كمسائل المساواة بين الرجل والمرأة، والحريات الفردية بما فيها حريات الاعتقاد، وكذا التسامح مع اللا أدريين والملحدين، حتى في حالات انتقادهم للرموز الدينية من الكتب المقدسة والأنبياء وغير ذلك.
إنه لا يمكن تقديم الدين كمنتج ثقافي، مهما كان ذلك مناطا للتحفيز التاريخي لحال العلم والفلسفة والشعر أو الصناعات العلمية والاجتماعية والفكرية المماثلة، وهو بالطبع لا يمكن أن يرقى إلى الاغتيال الصريح لجميع الأديان. وإلا ضاقت الرؤية وانفلتت وجاهتها وانخرمت تحت وطأة السؤال الأخلاقي والقيمي الذي يرفع السمت الديني ويوطنه في النظام البشري ككل؟.
الأولى في هذا السياق التقاطعي المضطرب، أن نعمل على التفكير في إنتاج أساليب جديدة، لتأطير قضية «الأخلاق والثقافة الدينية» وجدوى تطوير علاقتنا بمنهاج التربية الدينية في مقرراتنا الدراسية ومناهجها الضعيفة.
وهو الشكل الملائم لإدارة علاقة اكتساب الثقافة الدينية تلك بباقي المناهج الدراسية والتربوية الأخرى، خصوصا تلك التي تشتبك في جوهرها مع الدرس الفلسفي والتاريخي والأدبي، وذلك من خلال رفض السماح بانتقاد خطابات الديانات المختلفة ، وهو ما لا يسمح به مقرر الأخلاق والثقافة الدينية بإبطال الحقائق التي يزعمون أنها تبطل. ولهذا لن يكون بمقدور مسؤولينا في التربية والتكوين، أن يعملوا على إلغاء هذا النمط من التفكير، والاستعاضة عنه بدورة عن تاريخ الأديان تمنح لمتمدرسينا الفرصة لتنمية تفكيرهم النقدي واعتقادهم المبني على الاقتناع والحجاج الخطابي الرصين والمبادرة المبنية على التميز والتفوق والاقتدار.
3 ـ مَغَالِيق أندريه كونت – سبونفيل وأسْراره
«السخرية من الفلسفة هي أيضاً تفلسف، وإن السخرية من المعلمين تعني الوفاء لهم والانفصال عنهم» ـ سبونفيلـ
ـ قليلون من تجرأوا على مبارزة العدة المفاهيمية الثقيلة والهادرة للفيلسوف الفرنسي أندريه كونت- سبونفيل، صاحب «روح الإلحاد» الشهير بـ»الرسالة الصغيرة عن الفضائل الكبيرة». ذلك أن الاقتراب من سبونفيل يحيل بالقراءة الأولية على «تسفيه الدين» و»إسقاط العقيدة» و»تمجيد الذات الفردانية «… الخ . بينما يجتاز صديقنا الباحث في الفكر الفلسفي المغربي حسن أوزال هذه الفرضيات الإبدالية إلى أقصى درجات التأمل، شأنه في ذلك شأن انتشاله اليقظ والمتدور لفعل العقل والسيرورة، وعلاقتهما بمحنة الوجود ومآلية الجسد والروح.
قراءتي المبدئية لهذه الإضاءة المبرومة لتحولات الفكر واستعاراته الجديدة، في خضم الفورة التي استبصرتها نتوءات العقل الإنساني وتداعياته في سيرورة الحياة وما بعدها، يثير فينا فضول البحث المتواصل عن أسئلة الكينونة والمعنى، وموقف العقل الباطن إزاءهما..
ما الذي يريده سبونفيل من خلال مكاشفاته المترنحة في «تأملات الفلسفة»؟ ومن خلال ذلك البحث المستعاض به عن التأمل بالقياسات الفلسفية الأخرى، التي يواجه بها الباحث حسن اوزال المبضع الذي يجتبيه صاحب الكتاب وهو يرتق كنه التفكير بالمآل، بما هو انشغال بالآخر، وبالفردانية السيئة.
هي إذن «فلسفة مضادة»، قريبة من البناء الذي يوحد فكرة الشمول والاتقان، لكن، دون تجاوز العقل.
في كتابه الغرائبي «لست فيلسوفا»، يشيح سبونفيل عن توجهه الفكري، حيث يبتعد تماما عن خطابية الفلسفة الاستدلالية، متمنطقا بروح جديدة وفضاء استعاري متوثب، يكافح من أجل «تطويع الحياة، وجعل أساليب ممارستها مليئة بالوهج والانتشار المستجيب للسعادة».
يحاور سبونفيل مركزية الفلسفة الكلاسيكية، مستعيدا بذلك شرائطها المكرورة في استكناه محورية الوجود وأقدميته في الوجود والسيرورة؛ وهو إذ يفعل ذلك فإنما ليعيد تفكيك نظرية الخالق والمخلوق، ويثير مشكلة علاقة الفلسفة بالغيبيات، ما يفسر مذهبيته في تقييد مفازة الإلحاد، وتمطيطه ليصير «وسيلة للتواضع.. إنه أن نفكر في أنفسنا على أنه حيوان، كما نحن بالفعل، وأن نسمح لنفسه بأن يصبح إنسانا».
لا يعني ذلك تماما أن مبدئية الحياة والموت تنتهي بالإغراء الفكري بممارسة العدم، فقد استوجبت الحياة عنده شيئا من الفناء، ربما لاجتراح متاهة غامضة، أو مكاشفة لأسرار كونية بالغة التعقيد.
وقد واجه سبونفيل هذه القطيعة الفلسفية باستنباطه المتعب لماهية الموت وسط جحيم الحياة، قائلا:
في كل لحظة في حياتنا تتميز بالموت، مثل الظل من عالم آخر، يبدو لنا وكأنه نقطة تلاش لكل شيء. كيف «يمكن للمرء أن يتأمل في الحياة دون التأمل أيضًا في قصرها وهشاشتها»؟
أليس حريا بهذا الإذعان الطوعي للفرح بالحياة ومجابهة الفناء أن يستميل عقلا يؤمن بوعاء التفلسف حوضا جامعا للفعل التحرري والرفض القاطع للتبعية والسلطة، والإصغاء العميق للحياة، منتفضا على الدوام في وجه الردة والجمود والسلبية، حيث البحث عن سعادة العيش، بما هي فن وإبداع فلسفي واع بالزمن والسيرورة والاقتدارية؟.
في كتاب «تأملات فلسفية» لا يخرج المفكر الفرنسي المعاصر أندريه كونت–سبونفيل عن قاعدة أسلافه ممن تقصدوا تدوير أهم قضايا الفلسفة الكلاسيكية المحايثة للنصوص التي تكرس للمواضعات المفهومية المعروفة في المتن الفلسفي القديم، كالحرية والسعادة والذات والمدينة والسياسة والأخلاق، وقيم المعرفة والعلاقات الإنسانية والعيش المشترك …إلخ؛ وهو بذلك يكسر أطواق مجايليه ممن راكموا تجربة فلسفية معاصرة رائدة، كآلان فينكلكروت، وجوليا كريستيفا، ودانيال تشارلز، وجورج غوستورف، وإدغار موران، وغابريل مارسيل، وغيرهم كثير.
هل يعني ذلك أن الاقتراب من التفكير في دهاليز سبونفيل السادرة والمحلحلة لمنظومة الفلسفة، بما هي ممارسة للتساؤلات اللاعقلانية، المتسيدة والخارجة عن الوعي بالمعرفة العلمية أو العقائد الدوغمائية، سيغير من علاقة تأسيس النص الفلسفي المتجدد والواعي بشكل ومنطق الزمان والسيرورة وتكييفاتها المتاخمة للأنماط والسلوكات؟ أم إن القدرة على فك الارتباط بكل ذلك وغيره هي مبغى العالم ومستقبل التفكير الحقيقي؟.