ذاتَ صيفٍ في طنجة مع زفزاف وشُكري وولاّدة بنتُ المستكفي
أحمد المديني
كلما اقترب الصيف، أقول، أبشّر نفسي بخلاص ما، بانفتاح، بذهابٍ نحو لا حدود، فهكذا ارتبط هذا الفصل في سيرة طفولتنا المدرسية، وفتوّتنا وتَرعرُعِنا داخلَ فضاءاتٍ أُسريةٍ ومجتمعية لكم حسِبناها مفتوحةً وهي منغلقةُ بالجدران ومسوّرةٌ بالأخلاق والتقاليد وبالامتحانات، وفي الأفق وهمُ مستقبل ذهبنا إليه حالمين، جَوعى، عطاشًا متلهفين بينما هو مجهولٌ لا غير أو سراب. كنا نُعِدّ الأيامَ إذا اقترب الصيفُ وكأنه سيحمل إلينا تلك الوعودَ السماويةَ المعلقةَ في ليلة القدر ونحن نصدق نهفو إليها يغلُبنا النوم فوق السطوح، نحلُم سنلقاها أوّلَ ما نفتح العين لنستيقظ خائبين على قبضِ ريح. عشنا وكبُرنا نظنّ أننا طُلقاء، بينما نحن قيدَ الأغلال من كل نوع، من المِعصم إلى الروح، وحين يهجُم الحرّ وينتصف شهرُ يونيو ثم يدقُّ جرسُ نهايته ننطلق عاصفةً هوجاءَ خارجَ الأسوار، نحسّ ، نقول إننا أحرار، منتشين نسمّي عطلتنا» التّحريرة»!
كان وهمًا جميلاً، به وبمثله عشنا وتدرّبنا على الصبر وقبول حياتنا، تدبّرناها تستحق العيشَ وهي بائسةٌ، جمّلناها، كسوْناها بغُللٍ زاهيةٍ وهي أسمالٌ وخِرق بالية، إني أتكلم هنا بالحقيقة والمجاز، فيُؤخذ كلامي على محملين بتفاوت من حال لحال، ولكل مقام مقال، وفي كلّ ذكرى بياضٌ وثقوب، وكلٌّ منا في تاريخه يجوب، لكني عن تلك الذكريات المترامية الأطراف الآن وَسْعَ ما عشت بين استقرار وشتات، وتقلبنا فيه آمالاً رحابًا وامتطيناها سحب أحلام، وأثخنت أجسادنا وقلوبنا بالآفات؛ عنها بما أحمل من نُدوب لحمًا وقلبًا لا أندمُ ولا أتوب. أرى الأقوام حولي جمّا خلف باب، من على جبينه سيرةُ أيامه، ثمّة وجوهٌ أمامه مرايا تعكس شريط ماضيه، ينظر إليه لا يصدق: هل أنا حقا ذاك؟ لا، كلاّ، بتّ الآن أريد الفكاك، وتأخذه جدبةُ الصوفي يُنشد:»مولاي إني ببابك مولاي»؛ «جئت إلى بابك أحبو أنشد التواب» مولاي إني ببابك مولاي»!
لا مولى لي غيرَ الله ولا سيّد، خلا صيفٍ، كلما دنا يُغري به ويغويني، ها أنذا قادمٌ إليك فتجدّد. في زمن قديم، كنا نحن أبناء الجنوب نصعد نحو طنجة، المسمّاة وقتها عروسَ الشمال بأسوارها العالية في العَيْطة الجبلية لا نراها، فنحن خفافيشُ الليل، اخترنا أن نحلّق في سماها،غِبَّ يتّقدُ نجمُها وتتعبُ أقدام الغادين والرّائحات من الصعود والنزول في البوليفار، ويعود جُلاّسُ المقاهي الساعات قهرًا إلى الدار، تصبح المدينةُ مِلكنا نحن الصعاليك الشُّطّار، وهذا قبل أن يغدو محمد شكري للعابرين أيقونة تُزار، ويُحوّل تراثُه اليوم وذكراه بضاعةً لعيّارين شُطّار. كانت طنجة تكفينا وأجسادنا بشساعة بلاد، لا عجب أن رجع زفزاف بخُفّيْ حُنين من طوري مولينوس وتخلّى عن السويدية سوز، ليؤوي إلى فندق بسيط فيقشّر طيفَها بأناة ورشاقة في» المرأة والوردة» كاللوز، ويعلّم شكري في السوق الداخل فنّ القصّ ـ فهو معلّمه بلا منازع ـ ؛وبعد منتصف الليل حين نتذكر الأندلس نحرق سفائننا في أعتق كأس، فترقص غرناطةُ فوق الجَمام، ونحو مجلس ولاّدة نرحل إلى قرطبة لنراها في مِشيتها تتيه تيهًا، وبما أن الجميع يطمع فيها نشرب نخبَها في أجمل بار، وإذ تتغنّج تطرَبُ شعرًا تناغينا:» وأُعطي قُبلتي من يشتهيها».
عزمتُ في مطلع هذا الصيف أن لا أجادل، ومن صَفَعنا على الخدّ الأيمن أدير له خدَّنا الأيسر، هم اعتادوا على صفعَنا ولطمِنا وإجراء تجاربِ التنكيل والتطويع، ما المانع إذن من حفلة أخرى. منذ استقلال المغرب(1956) وهو مختبرُ تجارب، وشعبُه يتقلّب في البرامج والمحاليل، وكلّ حكومة وفئة غالبة تنسى أن لا غالب إلا الله، تبشّر بالمعجزة وتعلن بالنّفير أنها تملك مفاتيحَ الغد قبل اليوم، فاليومُ عابر، وما تلبث بجرّة قلمٍ أو مجرد سأمٍ منها أووف، أن تُطوى في الغابر والظاهر. عزمت، لكن ثمة دائمًا في ديارنا ما يُثير، في المشهد العام لا الخاص، فأنا حاشا لا أتجسّس على الناس بمليون عسّاس، أو أترصّد رشْقاتِ الحبّ في الشوارع، ولا أتصنّت لآهاتِ الشبق تحت الوسائد؛ منه كلامُ المفوّهين بينهم أكثر من وزيرة ووزير. كنت مستغرقًا في إعادة قراءة مسرحية هملت أسمع تحذير الضابط مارسيلوس من محاولة قتل هملت: «ثمّة شيءٌ فاسدٌ في مملكة الدنمارك» استعدت معها الكاتبَ الصحفيّ الوطني راعينا الراحل عبد الجبار السحيمي، كان قد وضع هذه الصرخةَ والتحذيرَ في السبعينيات عنوانًا لإحدى خواطره الطائرة أطارت النوم من عيون؛ وإذ معالي الوزير يثقب شاشة التلفزيون بصوت جهوري وهو ثابت الجنان، خاصة لوزارته عديدُ أسماء وعنوان، يقول لا فُضّ فوه إنها المرة الأولى، أي بعد انصرام سبعين عاما على الاستقلال، ينفرد وحده بوضع استراتيجية، هكذا يتحدث ولا الجنرال مونتغومري، وكلّ الذين سبقوه محا ذكرهم ببلع لسان لم يبلغوا نبوغه، وحده بعد سلسلة أسماء صالوا في زمنهم وجالوا أعرفهم حاولوا وما تعالوا، وتداولتهم كراسي الحكم هي سُنة الحياة والوزارة وزالوا، إلا صاحبنا أسمعه يثقب الشاشة بصوت ملء الثقة ويا لها من نبرة اعتداد، منتصب القامة تحت قبة البرلمان يبشّر العباد، جاعلاً له أرخميدس آخر الأجداد: أوريكا، أوريكا [وجدتها، وجدتها!].
كنت قد عزمت حقا وما أزال على طيّ صفحة الكلام، ودخول سوق رأسي بعيدًا عن القول المُلام، لولا أحدُهم ظنّ أن القوم حوله استكانوا جميعًا إلى المنام، والخيلَ بركت والحميرَ وحدها تثير النقع[ تزعرط] وتعتلي وتير الكراسي في الحقيقة والمنام، فانبرى، أراه منذ بضعة أعوام وهذه الأيام، يقول أنا الفارس الهمام، في أكثر من مقام، وحيثما يُمدُّ خِوانٌ ويُرخّى زمامٌ تدافع أنا موْلى اللّجام. الآخرون، نحن الذين كنا الأوائلَ والعرمرمَ في الجبهات والمنابر أقبرَنا مع الغابرين، فهو وحده بظلٍ قميء سيحجب الشمس، ويعيد ترتيب الإيديولوجيات كدورة الفصول، لتطاوعه كما يريد، ناسيًا أن لا يفُلُّ الحديدَ إلا الحديد، وما يحسَبه جديدًا أضحى تالفًا وعقيمًاهلك بسببه سادة وسدنةٌ وعبيد. ثم إني أشفق عليه أقول لا يلام، فقد تداولته الأيام. حين كان الصناديد يهترؤون في الزنازن، يمص البق دمهم، ومنهم من اختفى كالهباء، والأنفُ شممٌ والرأسُ إباء، وقتها استحلى زمن الولاء، وتباهى بعطايا الأولياء، تقلّب في المناصب يزهو في المواكب، الإيديولوجيات والفصول الأربعة بما فيها الربيع العربي الموؤود، ومن كان عليه بالأمس يألف زِه يجود، سمّاها على رؤوس الأشهاد هراء، ولا حرفًا خطّ ،لا عوى ولا مُواء، والآن يسلق ما سلف من ألقاب ويستعير الأسماء، قد عيل صبرُه يتحرّق لسماع النداء، يومئذ سيطوي صحائفَه ويَحُزّ لسانه، ومن غيْهب كوابيسه سيهبّ منتفضًا، يا لطيف، خير وسلام. لا تقلقوا، هذا لا أحد، إنما احذروا دورةَ الأيام.
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 19/07/2023