خطاب العرش، وترجمة اللحظة المغربية الآن! (1) في أفق التقييم، والحصيلة وخارطة المستقبل
عبد الحميد جماهري
في منظومة القيم المرتبطة بالمسؤولية السياسية والتدبيرية للبلاد، يكون خطاب العرش خطابا مُهيْكلا وذا أهمية عالية. وهو خطاب يتمتع بوضع اعتباري قادر على خلق أفق انتظار متجدد، وذلك بفعل التاريخ المعاصر للمغرب، ومكانة الملكية وتوجيهاتها في بناء الهوية السياسية المعاصرة للبلاد، ووضعه الاعتباري الفريد يجعل منه … خطابا للأمة.
يقوم الملك في خطاب العرش بتقديم حصيلة السنة السياسية الفاصلة ما بين الخطابين، ولا تخلو خطب العرش من التقييم اللازم لما تحقق أو تعثر، بل لا تخلو عند الضرورة من إعلان الملك عن ممارسة صلاحياته الدستورية، أو يقدم الشروحات الضرورية والمعلومات الاستراتيجية، سواء في العلائق بين المؤسسات أو مع الدول…
وفي خطاب العرش تقديم ما ينوي القيام به أيضا في مستوى من المستويات..
ويكون الخطاب نموذجيا في الدقة السياسية ووضوح الرؤية، ويكون دوما موضوع تحليل ومتابعة دقيقة، من حيث القاموس والاختيار اللغوي كما من حيث الأهداف والسياسات، قطاعية كانت أو استراتيجية شاملة.
فيه يجد المتابعون، وهم ليسوا مغاربة فقط، «روح اللحظة «، وأحيانا ما يليه من توقعات .. ليس سرا أن الجميع، ينتظر أن يجد فيه» نفسه»، مؤسسات وأفرادا، مجتمعا مدنيا وحكومات، شركاء إقليميين
ودوليين.. وكل الفاعلين السياسيين يبحثون فيه عن ما يرفع أو يخفض من مساهماتهم، إن كانوا صادقين أو غير صادقين …
هو لحظة للتقييم ولحظة لانتقاء القاموس الذي يتحدث به عاهل البلاد إلى المغرب والمغاربة.. وهو لم يعد يقتصر على انتظارات المغاربة وحدهم، فلا شك أن دائرة الاهتمام به وانتشار توجهاته صارت جزءا من المتابعة الخارجية، في دول الجوار المتوسطي، والأوروبي، وفي الامتداد الإفريقي ولا شك.
وهو إلى جانب ذلك لحظة حصيلة واستشراف، تنشط فيها المؤسسات لتدعيم ما يجب الدفع به: الحكومات والمؤسسات العمومية والإدارات تقدم أرقامها وفلسفتها وتدفع بمنجزاتها…
والكل يبحث حقا عن منح قوة دفع ضرورية، وهبة سامية لمشاريعه أو مقترحاته في السياسات التي تهم البلاد ..
وفي كلماته وبين سطورها، نبحث عن التحكيم الذي يطرأ من خلال الرقابة الدستورية الملكية لسير المؤسسات، باعتبار الملك ضامنا لحسن سيرها!
ليس سيرها، وليس وجودها، والموجودين بقوة الفعل السياسي الملكي، بل حسن سيرها.
ومن هنا تكون نبرة التحكيم كما نبرة المحاسبة في الخطب الملكية.
هناك، في اللحظة المغربية اعتزاز داخلي مسنود باعتزاز خارجي، والعكس صحيح، واللحظة المغربية الخارجية التي يأتي فيها خطاب العرش، هي لحظة للتأكيد على المكانة المغربية وما تحقق، في سنة واحدة فقط ـ2022 ـ2023( كما في 24سنة من الحكم الملكي الإصلاحي .).
في اللحظة المغربية اليوم ما يملأ صفحات من المكتسبات: الدور الإقليمي، الثقة في المغرب، التواجد في خارطة الديبلوماسية الدولية، الروح المبادرة في تأسيس ثقافة إنسانية جديدة، من حيث تأطير الفعل الروحي، أو من حيث حماية القيم الإنسانية الروحية السامية ( التسامح ومناهضة الإسلاموفوبيا وحوار الديانات )، المكاسب غير المسبوقة لصالح القضية الوطنية، سواء من حيث وضع قواعد التعامل الجديد مع المغرب، بناء التعددية الدولية في الـشراكات أو من حيث اكتساح الحقل الدولي في أفق طي صفحة الصراع المفتعل، والمساهمة في بناء السلام العالمي.. وكل المبادرات التي تعيد المغرب إلى سجله التاريخي المعتز، المتوازي مع قوة نضجه الاستراتيجي الحالي وقوته الراهنة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا..
لم يعد المغرب، فصلا روتينيا في التاريخ والجغرافيا العالميين، يحتفظ لهما أطلس الخرائط بموقع بين البحرين وبين القارتين وبين الحضارتين، بل صار قاعدة لا محيد عنها للسياسة الدولية، مع كبريات التكتلات الدولية، عسكريا واقتصاديا وسياسيا وماليا، وهو أيضا قاعدة متحركة نحو الشرق الأوسط، والرقم الأول والشريك الأساسي في العلاقة مع التكتلات القارية إفريقيا وأوروبيا.
المغرب هو اليوم القوة الإقليمية التي لا غبار عليها. بفضل مهارة سياسية في تدبير الأزمات، بقوة ولين في الوقت ذاته، بالتوضيح التام لقواعد الشفافية الأخلاقية واحترامها والربط بين المبادئ في التعاون الدولي والمصالح، وربط القول بالفعل في قضايا جوهرية عند الرأي العام الدولي، وأيضا بالفراسة التي جعلت المغرب يقرأ جيدا التحولات الدولية ( خطاب الرياض نموذجا )، وما تحقق للمغرب بفضل أن الملك المغربي فرض سلطته الجيوسياسية بواسطة تميزه واختياراته السليمة، و»ذوقه» السليم في ضبط العلاقة بين أوروبا وإفريقيا.
وقد كانت فترة 24سنة من الحكم كافية كي يضع الملك بصمة هوية للمغرب الحديث، والانتقال به إلى مصاف القوة الإقليمية، التي لا بد منها لفك شيفرات العلاقات بين ثلاثة فضاءات متلازمة ومتجاورة على الأقل، المتوسط والشرق الأوسط، إفريقيا وأوروبا.
يمكن أن نُجمِل الوضع بالقول إن محمدا السادس جعل من الرباط هي العاصمة التي تخلق الحدث، منها وإليها تعود الأمور في القضية الوطنية، وعليه فإن نيويورك عاصمة الأمم المتحدة وجنيف وغيرها تنتظرها كما تفعل العواصم الأخرى.
والنقطة الثانية هي المناخ العالمي الشامل الذي صار مساندا للمغرب بل في العواصم صانعة القرار، وكما سبق القول، لقد صارت مصداقية الملك وسلطته الأخلاقية في الانحياز إلى القضايا العادلة في العالم ( خدمة السلام، التسامح والتنمية والحفاظ على الكوكب… والتعاون الرابح ) تجعل الإنصات إلى بلادنا هو سلوك المنصفين، بل ان العديد من الديبلوماسيين لا يترددون في القول إن القضية انتهت في الذهنيات وبقيت الوثائق الأممية فقط لطي هذا الملف المفتعل.
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 22/07/2023