أصداء أصوات غافية .. ومن صفاته: أنه أدوى وأودى وقتل

هل الحب قاتل؟، هل يقتل صاحبه (ذكرا كان أو أنثى)، المسكون به، والملثاث بحمله؟. ولماذا يقتل؟ أله مدْيَةٌ خفية يطعن بها غدراً وغيلةً في جنح الليل أو في وضح النهار؟. أله سيف بتّارٌ يقطع نياط القلب، قبل أن يقطع رأس المحب العاشق والمحبة العاشقة، ويجُزُّ أوردتهما وشرايينهما فيتفصد الدم قانيا لامعا كالشرف الرفيع؟. أهو جزار قصّاب؟ فبأي معنى، وبأي كيفية وطريقة وأسلوب؟. وإذا لم يكن ذلك، ولم يكن كذلك، وكان خُلْواً من أي أداة أو وسيلة قتل مادية، فَبِمَ يقتل؟: أبالعينينالنجلاوين، أم بالحاجبين الهلالين، أم بالجبين اللجين؟، أم بالرموش الطويلة الوَطْفاء؟ أم بالوجنتين التفاحتين الناريتين اللتين ترميان بشَرَرٍ؟، أم بالخد الأسيل وبالوجه الصبوح، والمُحَيا الوضاء؟، أم بالأنف الرفيع الأقْنَى، والمرائي .. مرائي الفواكه الاستوائية التي لم يمسسها بشر، ولم يطمثهن إنس ولا جانٌّ؟. أم بالجيد الأتلع الأملود، جيد الغزال النافر، والمَها القلِقَة؟. أم بالصدر الممتلئءالزافرالكافر، والنَّهدين النجدين الحُّقَّين البيضاويْن الحارقين المُفَلَّكين المُتْلِفَين؟، أم بالخصر الرهيف الدقيق، والبطن الضامر؟، وبالشعر الأسود الغميس الفاحم، أو بالشعر المقذوف إلى العُلا كأنه يعصى الاستقرار، ويتمرد على الركود والهمود؟، أم بالشعر القصير الأشقر الذهبي اللاهب اللاسع الذي يضيء الليلَ الألْيَلَ؟، أم بالذراعين البضَّين، والأنامل الرَّخْصَة الطويلة الرفيعة المزدانة بلهيب الخواتم الذَّهَبِ، أو بهيئتها الفضية كما سُوَّيَتْ أول النشأة، وبالأحجار الكريمة، أكاد أقولُ: الظالمةِ؟
أمْ هو (أعني: الحب)، قاتلٌ بهذه جميعِها: ملتفةً متآمرةً، متلاحمةً، ومجتمعةً ومتشابكةً: جيشاً بألوية ظامئاً إلى الطِّعان، عطشانا إلى السفك وارتشاف الدم؟، أو مناجل ترتسم رافعةً خافضةً وقاطعةً تومض بالسحر والخرافة والوعد والوعيد، وتهوي سريعا خاطفا كمثل الحدْأَة أو العُقاب، على أرنب برّي غافل ينط منتشيا، أو طائر شارد يهم بالطيران أقعده الدودُ، أو جُرْذٍ لاهٍ ينقب ساهما عمّا يواريه الحصيد النائم، والعصفُ المأكولُ؟ ولكن، لهذه الأوصاف والنعوت والأسماء والهيئات التي لاَ تُبْقي ولا تَذَرُ، ما يسندها ويؤيدها ويؤبِّدها، ويجعلها ناجزة دانيةً باترةً حين يحينُ الحين، وتسنح السانحة، وتواتي الفرصة. لها صاحبتها، صواحبها، عنفوانها، رشاقتها، قوامها، مَيْسُها، تهاديها، غُنْجُها، دلالها، إيقاع خطوها، لفتاتها، نظراتها، أنفاسها، طيبها، وعطرها. لها عسل كلامها، رُضابُها وريقتُها، همس جفونها ولغتها، عذب تعبيرها، وصبابة قلبها ولسانها. يقول شاعرٌ: وإنا لَيَجري بيننا حين نلتقي //// حديثٌ له وَشْيٌ كوَشْي المطارفِ. ويقول شاعر آخرُ:
منطقٌ صائبٌ، وتَلْحَنُ أحــيـــانــاً ///// وخيرُ الكلام ما كان لحْنا لذلك، فُتِنتِ اللغة بما ترى وتبصر، وفتن صاحبها الذي ينوء بها كما ناء جبل « رضوى « بشعر شيخ المعرة، والعهدة عليه. فغدا يدبج ويُحَبِّر، ويصوغ منها.. منحروفها (والحروف أرواحٌ وأجساد)، وكَلِمِها (والكلم جواهر وأنفاس ووجود)، لآليءَ وجواهرَ تزينها، وتزدان بها، وتزخرفها لتضفيَ على حاملة الجمال والسحر، و « مُسَوِّقَة « البهاء والجلال، وناشرة الظلال في القيظ، والفيء في الرمضاء والهجير، والماء النمير للصَّبِّ الغرير أو الحسير، أو المقذوف في فوهة البارود، ولُجّ السعير.
إنها المرأة، وقد تكون مثالاً، ذات العقل الراجح، والجسد الراشح. وإنه الشاعر الممتحن والمبتلى، وليس غير الشاعر الغَزِلِ بقادر على أن يُسَوّيَ بَنانَهُ، ويُدَوْزِنَ اللغة بما هي نعمة وابتلاء، ليعزف بها أنغاماً علوية لازَوَرْديَّة ساحرة يُرَقِّصُ لها أرواح الكون، ويزدهي بها سمع الأيام والليالي والأزمان، قبل أن ترقص لها وبها المرأة الحسناء، والفاتنة النجلاء، تستوي في ذلك: امرأة المجتمع العادية، وامرأة الطبقة العالية الراقية. ذلك، أنه حتى الملكات والأميرات، والماركيزاتوالبارونات المُنَعَّمات المُتْرَفات لم يسلمن من الغزل، ولم يَنْجَوْنَ من التشبيب بهن، وانتهاك خدورهن، واستباحة حرماتهن، ما جرَّ على الشعراء «المساكين»، الويل والثبور، وعظائم الأمور، وقادهم إلى المنفى أو الإخصاء، وأحيانا إلى القبور.
ولنا في عروة بن حزام، وعبد الله بن عجلان، وقيس بن الملوح، وقيس بن ذريح، وجميل بثينة، والعُرْجي، ووضّاح اليمن، وديك الجن، وغيرهم في بلاد أخرى وأصقاع مختلفة، وجغرافيات بعيدة، ما ينهض دليلا على ما قلناه، ويؤيد بالحجة لتاريخية الدامغة ما أوردناه. فحتى الرهبان والراهبات في الغرب المسيحي لم يسلمن من نار الحب، وأذى العشق والغرام، فعبروا عن حرائقهم، وعلائقهم السرية والمفضوحة «الآثمة» التي تحاربها الكنيسة. ومأساوية العلاقة الغرامية العاصفة بين الراهب الفيلسوف أبيلارْ، والفاتنة المثقفة إيلويزْ، ناطقة بذا وأكثر من ذا في الرسائل المتبادلة بينهما بعد أن أُبْعِدا وَحِيلَ بينهما، وخُصيَ أبيلارْ. ولنتأمل ما قالته الراهبة القديسة تيريزْ ذا فيلاَ في القرن السادس عشر: (الحب قاسٍ وعنيدٌ مثل الجحيم). وما رددته الأوبرا الشهيرة (كارْمن)، للموسيقار الفرنسي: بيزي (الحب طائر متمرد، ليس في طوق أحد ترْويضَهُ).
أدام لله عليكم وعليكن، نعيم الحب و «جحيمه».


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 28/07/2023