قصص

قبو التيس المكلل بالغار

كلما طلبوا منه النزول، كان يعتريه خوف شديد مصحوب بحمى باردة وسعال خانق. كان يقول لهم بارتجاف إن تيسا مكللا بالغار يخرج من ماسورة الغاز الرئيسية ويضمه ضمة قوية إلى صدره، ويأمره بالكف عن إزعاج أرواح المكان. وحين يسخرون منه، يطرق، ويقول:
– تيس ذو وجه نحيل، ووجنتين بارزتين، وفم واسع. إكليل الغار يلمع فوق قرنيه، ونظرة ناصعة البياض تترقرق في عينيه..
تعوَّد أن يتجاهلوه، وكان يرد على استهزائهم برفض النزول إلى القبو بأي ثمن. أقام به أربع سنوات قبل أن يبدأ التيس في الخروج من شق قرب الظلف الأيسر للنافذة. كان يتحرك عبر الظلال ببطء، وينزل كسحابة دخان. نظرته الأولى كانت حلوة وحانية قبل أن يفسدها الاتساع، ومع الوقت بدأ يرسل غما شديدا، ويلصق رأسه بالأرض قائلا: «إذا لم تخرج، ستموت قريبا». هم لا يعرفون- ولا أحد يعرف- أنه أتى بفقيه سوسي ليطرد التيس على نحو سريع، ولا يعرفون أيضا أن الفقيه ابتلع تعاويذه بكثير من الأسى وهرب. لا يعرفون أن نظرته بدأت تنطفئ شيئا فشيئا، وأنه يقضي ساعات طويلة نائما بين المكاتب، لأن لا أحد منهم يصدقه أو على الأقل حاول ذلك. قالوا إنه مريض جدا، واتهمه بعضهم بالجنون، والأشد رأفة بينهم اقترحوا عليه زيارة طبيب نفسي. لكنه كان يقسم بأغلظ الإيمان بألا ينزل إلى القبو ولو سحبوه سحبا، ولم يعد بعد ذلك ينطق بكلمة واحدة أمامهم.
وحدث ذات مساء أن سمع الجميع صوتا صاعدا من القبو، بينما كانوا يتأهبون للخروج. صوت كروح صغيرة معذبة. أكد لهم هو بهلع أنه التيس، وعلت وجهه مسحة ذعر، وصرخ فيهم.
-إياكم أن تفتحوا القبو.. من فتحه يموت قريبا.
نظروا إليه باستهزاء، ونزلوا تباعا. ومنذ ذلك الوقت، لم يظهر لهم أثر، بينما ظل يضع إكليلا على رأسه، ويهبهب ويطلق أمام الزوار ضحكة صادقة:
-كلهم موجودون وراء الجدار. كلهم مدفونون هناك!

قبو قلعة إبرغوسن

تهدلت أطراف إزارها الأسود على قدر النحاس التي تضعها بين ساقيها الممتلئتين، قرب الموقد. أربع قدور متفاوتة الحجم تتدلى من جدار المطبخ، تنتظر دورها لتُلَيَّف بالجيكس ومسحوق تيغشت، وهو يلوح لها من مكانه في عمق القبو لتأتيه بإبريق القهوة. كان يخاف مما لا يعرفه غيره، ولا يجرؤ على الاقتراب من الموقد، وهي لم تخبره بما رأته قبل قليل. لم تفعل لأنها تخاف أن يفر إلى القلعة، كما كان يفعل دائما.
حملت إليه الإبريق، وأغلقت الباب خلفها. وما إن عادت إلى قدورها، حتى قُطِع النور، وبدأ الظلام يتساقط من الشقوق. كان في القبو وحيدًا من دون أي شيء يضيئه. وبعد برهة من الانتظار، ولما لم تسمع نداءه، قامت مرة أخرى وسحبت عود كبريت وفركته فوق الجدار، ثم أشعلت شمعة ونزلت القبو. لم يكن هناك أحد. الأبريق مهروق عن آخره على السجادة المثخنة بحروقات السجائر، وشيء مثل الذيل يلتصق بالجدار، ويضرب بكل قوة على السطح. تراجعت إلى الخلف قليلا، وسمعتهما يتهامسان في ما بينهما ويتحدثان كلاماً غريباً. حاولت أن تقول لهما إنها لا تستطيع سماعهما بوضوح، لكن صورتهما وهما يقفزان بخفة من أعلى البرج إلى النهر، جعلتها تصمت. قفزا ولم يعودا. كانا يعودان إليه ليلا بأربع عيون لامعة ونظارتين. يجرجرانه ويجلدانه ثم يمسحان جروحه ويختفيان من خلال الجدار. وهذه المرة، لم يكتفيا بذلك، هاجماه بسرب من الذئاب، وكمما فمه، ثم أخذاه إلى الظلام.
حاولت أن تقول شيئا، لكنها سمعتهما يقولان: “هو البادئ يا أماه. هو الذي أجبرنا على القفز من أعلى البرج”.

قبو عيون إلزا

انحنى أراغون على ركبتيه ليشرب من عيون إلزا، فرأى قراصنة ثملين يترنحون ويلقون بأنفسهم إلى البحر ضاحكين، وخلفهم يقف موكب أطفال يعزفون المزامير ويدقون الطبول ويسكبون جرار الخمر على رأس القبطان. كان يريد أن يرى تلك الشموس التي يأخذ رأسها بين يديه، قبل أن تمضي إلى قبو الغيوم التائهة، هناك خلف جبال جورا.
شعر بألم في عينيه، فاستوى وتراجع إلى الخلف. كانت رأسه مبللة بالخمر، وعلى رأسه منديل معقوف إلى الخلف، وكان محمولا على أكتاف أطفال شُقْر يسيرون حفاة على مياه بحيرة بورغي، وكلما تقدموا كانت تنتصب أمامهم سكة طويلة من ورق القصب. مد بصره إلى جبل مونتور، فرأى كأن بابا انفتح، وخرج منه طائر بأربع رؤوس. لم يكن طائرا حين اقتربوا. كان امرأة تلبس ريشا وتضع أمامها أربعة أكواب قهوة بالحليب. كانت تشبه إلزا تريولي وهي تتكئ في زيها الأبيض على بوابة منزل «لو مولان دو فيلينوف». طلبت منه أن يدخل لأن أمير روهان روشفور بانتظاره في القبو. عبروا جميعا الفناء، وكان أراغون مازال محمولا على الأكتاف. نزلوا القبو. ضوء خافت وجدران مقوسة بأرفف من الحجر والخشب، وزجاجات نبيذ وبراميل مغطاة بلحاء شجر الفلين.
كان الأمير يشرب ورأسه مغلف بقبعة من الفولاذ، وحوله رجال ثملون بحثوا طويلا عن انتصارات لا تأتي، ووجدوا أنفسهم أخيرا عبيدا في معاصر للنبيذ.
رفع الأمير رأسه نحو أراغون، وقال:
– هؤلاء أيها الشاعر هم اليائسون الذي يحلمون بالارتماء من الشواهق. هؤلاء هم الذين قتلوا حبيباتهم في ممرات الفراق. كانوا يحملون باقات الأزهار ويراهنون بأعمارهم من أجل عيون إلزا المرصعة بالشموس والشفرات.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 28/07/2023