إذا كان الوصف في النص الإبداعي عموما يدل على الإظهار والكشف ، فإن عنوان هذا الديوان يمكن اعتباره مدخلا أساس للكشف عن هوية النص الشعري ودلالاته الفنية والجمالية، وهذا من شأنه أن يساعد القارئ على خوض مغامرة التفاوض حول المعنى بين ثنايا القصائد التي يتضمنها الديوان. كما أن العنوان كنص موازي يفتحنا على احتمالات متعددة لفهم مضمراته الخفية.
إن المتتبع للمدونة الشعرية في المغرب المعاصر يلاحظ مدى مساهمة عدد من الشواعر في إغناء هذه التجربة بالنظر إلى النصوص والدواوين الشعرية التي تظهر من حين لآخر رغم قلته بالمقارنة مع ما يكتبه الشعراء الذكور، وهذا الوضع يطرح مسألة موقع الكتابة الشعرية النسائية ودور المرأة في النهوض بالمجال الثقافي عبر مساءلة وضعيتها الهامشية والبحث عن ذاتها وإثبات هويتها من خلال الكلمة الشعرية كأداة للمقاومة والتصدي لمختلف أشكال الهيمنة الذكورية والتمييز على اساس جنسي، ويمكن القول نفس الشيء بخصوص أشكال التعبير الأخرى مثل الكتابات السردية خاصة في مجال المسرح والرواية والقصة القصيرة. نقف اليوم عند محطة جديدة في مسيرة الكتابة الشعرية النسائية المغربية من توقيع الشاعرة حفيظة الفارسي في ديوانها البكر «خوذة بنصف رأس» الصادر عن بيت الشعر سنة 2022.
تتغيا هذه الورقة تتبع اشتغال الذات وتحولاتها كما تطرحها نصوص هذا المتن الشعري من خلال الكشف عن ممكنات الذات الأنثوية التي طالها النسيان أوتعرضت للتهميش والإقصاء. استعرت عنوان هذه الورقة «الذات تصف نفسها «من الناقدة والمفكرة الأمريكية ذات الأصول الروسية المجرية «جوديث بتلر» التي كرست ولاتزال معظم كتاباتها النظرية والعلمية للدفاع عن القضايا الإنسانية الكبرى ضد كل أشكال القهر والتهميش والقمع ومظاهرالاستلاب والتشيؤ التي يتعرض لها الإنسان في مختلف مناطق العالم خاصة في ظل الهجمة الشرسة للآلة الرأسمالية على الإنسان والطبيعة وما يستتبع ذلك من صنوف الاستغلال التي تتعرض لها الفئات الهشة في المجتمع البشري المعاصر. إن استعادة إنسانية الإنسان هي مهمة يقوم بها المثقفون والنقاد وكذلك المبدعون من شعراء وروائيين وكتاب المسرح والفنانون في مختلف مجالات التعبير الإنساني. في هذا الديوان سنتتبع الذات الشاعرة التي تصف نفسها وهي تقاوم أشكال القمع والتهميش داخل فضاء الإبداع الشعري، الشيء الذي يجعل الذات الشاعرة تصف ذاتها وهي تقيم في مسكن اللغة الشعرية.
تتكون هذه القراءة /التأملية من ثلاثة لحظات: الذات الواصفة- الوصف- الذات الموصوفة.
الذات الواصفة: تتجلى الذات الواصفة في خطاب شعري يتميز بطغيان ضمير المتكلم «أنا» ليس كذات منعزلة أو منغلقة بل بوصفها ذاتا تصف نفسها مقابل ذات أخرى تدخل معها في حوارلامتناه حول مجموعة من القضايا التي تخص عالم المعيش اليومي ومشاركتها الهموم الوجودية التي يتقاسمها الناس، وفي نفس الوقت استدعاء لهذه الذات الأخرى للتخفيف من حدة القلق المشترك بين الذوات الإنسانية.الذات الواصفة مشغولة بالآخر قدر انشغالها بقضاياها الخاصة. في كثير من الأحيان تحتاج هذه الذات إلى فسحة من الانفراد بذاتها للتأمل وأخذ مسافة مع الأشياء والعالم. في قصيدة «هدنة قبل الرصاص» تقول الشاعرة «خذ الأرض والسماء/واترك لي ما تبقى من هواء العاطفة/فأنا امرأة لا تحب الشمس/وتخشى اسمرار قلبها/كلما اشتد قيظ ذكرى/فكيف أدس قلبي بين حقيبيتن/ ولا ينتبه الحارس/(ص3).هذا هو المقطع الشعري الذي تبدأ أول قصيدة في الديوان وهو يؤشر على الفضاء العام للديوان حيث الذات الواصفة تسعى إلى طلب الانفراد بأناها قصد مناجاة عناصر الطبيعة التي تؤثث مشهدا نفسيا يستعد لخوض معركة ليس في النهاية سوى معركة بناء قصيدة تتهجى يتمها وتمسح خدها بين الجمل والفواصل/(ص13).إنها حكاية الذات الكتابة التي لاتسعها سوى الشذرية النفرية نسبة إلى المتصوف عبد الجبار النفري، الذي تناديه الذات الواصفة في عز موقف يتجلى فيه الجسد أعزل لا بيت له ولا طريق يقود نحو اللانهائي» ايها النفري/ضاقت العبارة/واتسع القبر/ لا ظل لي/كالنار/أتآكل/دون أن اترك ندوبا/على وجه الأرض/(ص15) .
الوصف: إذا كان الوصف في النص الإبداعي عموما يدل على الإظهار والكشف ، فإن عنوان هذا الديوان يمكن اعتباره مدخلا أساس للكشف عن هوية النص الشعري ودلالاته الفنية والجمالية، وهذا من شأنه أن يساعد القارئ على خوض مغامرة التفاوض حول المعنى بين ثنايا القصائد التي يتضمنها الديوان. كما أن العنوان كنص موازي يفتحنا على احتمالات متعددة لفهم مضمراته الخفية. ترمز الخوذة لأجواء الحرب والمعارك باعتبارها غطاء يحمي رأس المحارب مما يهدده من نيران العدو. لكن هذه الخوذة تحمي فقط نصف الرأس المتبقي من المعركة. النصف المتبقي علامة على التشبث بالحياة ومقاومة كل أشكال التهديد التي تلحق الذات خاصة إذا كانت ذاتا يصنفها الآخر على أنها امرأة وجودها مقتصر على ما يسطره قانون الهيمنة الذكورية وأعراف القبيلة. يدل العنوان إذن على ثنائية الحياة والموت في ظل مجتمع يجتر عطب السنين وينظر بعين واحدة وربما يفكر بنصف رأس ويحتكر خوذته لحماية نصفه. في هذا الاتجاه يصبح الوصف كتابة أخرى لهذا التاريخ القسري الذي يسعى إلى تدوين التاريخ نيابة عن هذه الذوات المقموعة. هنا يأخذ وصف الذات ممرا نحو استرجاع هذه الهوية المفقودة التي كادت تختفي بفعل السائد الاجتماعي الذي يكرس العلاقات المتوترة بين الرجل والمرأة والتي غالبا ما تنتهي إلى القهر والدونية. تقول الشاعرة في قصيدة «أعصر خوفي»: هي ذي أنا/نهر يغازله الجفاف/فيخرج من بين ذراعيه/الخرير/ وما بين نهرين/تدلى قمر وجانحان/ ولا أصابع بيدي(ص56)..وفي قصيدة «تسميات» نقرأ : أسميه رائحة/الغبار يعلو ويعلو/يدق الباب الموصد/ فتفتح غربتي أقفالها/ أسميه جرسا/حين يصغي إلى صوتها/ويذيب قهوة الصباح في سكرها..(ص59). لتصل في النهاية إلى المشترك بين الذات ونفسها: أسميه أنا/حين يجرحني الهواء/وينشطر إلى نصفين/إني يدك إلى الله..(ص60)
الذات الموصوفة: هي نفسها الذات المقاومة للتهميش والإقصاء التي تتعرض لها أمام كل أشكال التعالي الذكورية في سعيها إلى احتكار الرموز الرأسمالية للكائن خاصة الأنثى التي تتخذ من الكتابة كوسيلة للتعبير . ذات موصوفة خارج كل وصاية أو هيمنة استعلائية تسيجها السياقات الثقافية التقليدية التي تجعلها غير قادرة على تمثيل نفسها، وفي ذلك مقاومة وفضح للهيمنة الذكورية وتجلياتها في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية تقول الشاعرة في قصيدة «تسميات»: «من قال إن الشعر في مملكة النساء/حرام/إن القصيدة على جمرها/امرأة قابلة للاشتعال/فتطهر/إني يدك إلى الله/(ص63). ثم تواصل . «واهم من يصنع للنساء جناحا من حيلة/كانت الحيلة قبل الجناح/وكان الجناح ظل السماء/وكلما رقصت ريشة/تضخمت تفاحة/تساقطت/ضحك الهواء(ص64).لن تستريح الذات الموصوفة مادامت تواصل زحفها وسط الأنقاض بجسد متجدد، تقول الشاعرة في قصيدة رئة ثالثة: «أنا الآن أكنس الأنقاض/بعد أن تفحمت رئتي/أطرد الهواء المثقل بالغبار والحرائق/أرمم وجه المرآة/ أعيد تركيب الشظايا في دمي/ فينبت لي جانحان من زجاج/ (ص36). وفي قصيدة حكاية زرقاء ينهض السرد الشعري مرة أخرى ليحتفل بقوة الإصرار على خلق كل البدايات المحتملة لمواصلة الطريق «في الشرفة المجللة بدمع الضباب/تمد المرأة يدها إلى الفنجان/تشرب قهوتها الباردة/متعبة تسأل: متى أتذوق شهدك أيها العمر/المنذور للإقامة في القفير؟(ص44)
تقودنا هذه التأملات إلى استنتاج أن الفضاء الشعري هو الذي سمح بالتقاء الذات الواصفة بماهي ذات الشاعر بالذات الموصوفة التي تقيم في النص الشعري. الشيء الذي يساهم بشكل ملحوظ في إغناء المنجز الشعري بما يضفي عليه بعدا عميقا ينبع من تأمل الذات لذاتها ووصفها للعوالم المتصدعة بفعل اغتراب الإنسان المعاصرالناتج عن الهزائم والخيبات المتواصلة ، لكن هذا لا يعني تراجعا أو نكوصا نحو ذات تنغلق على نفسها بفعل توالي الهزائم والخيبات، بل عبورا فرديا نحو الذات الجماعية خارج الأنساق الضاغطة ، وهذا ما يؤدي إلى الكشف عن تجربة جديدة في الشعر العربي المعاصر تقودها مجموعة من الأسماء الشعرية التي تؤسس لوعي يتجاوز الذاتية الضيقة نحون أفاق كونية تترجمها نصوص هؤلاء الشعراء والشواعر في اتجاه اقتراح إبدالات معرفية وجمالية تنعطف بالنص الشعري من عمودية النسق وسلطاته الداخلية المهيمنة نحو أفق الذات الحاضرة أمام العوالم الخارجية.