في سنة 1940 ستُنجِب فرنسا من بين ما أنجبَت من عُظماءِها كاتباً مختلفاً سيَظلُّ مغموراً و منبوذاً و خارج اهتمامِ الدّرس الجامعيّ الأكاديميّ لأمَد طويل، هذا لأنّه بلور أفكاره خارج المختبرات العلميّة الفخمة بخروجه إلى المواجهة المباشرة بعد تشبّعه منذ بداية شبابه المبكّر بالفكر الماركسيّ و انبهاره بكاسترو ومشاركتِه بالتّالي إلى جانب غيفارا في حرب العصابات
غيْر أنّه لم يَطل به المقامُ في المعسكراتِ ليكتشف سريعاً، و هو المفكّرُ الفيلسوف، ثغرات الثورة المسلّحة وزَيفها، فيكتب منذ 1967 كتابه الأوّل «الثورة في الثورة»، معلِناً بذلك أنّ الثورة بهذا الشكل لا يمكن أن تغيّر من الواقع في شيء، ما قاده بعد سنوات طويلة من البحث والتقلّب بين مختلف أصناف العلوم، إلى الدّفاع عن أطروحتِه لنيل الدّكتوراه تحت عنوان «حياةُ الصّورة و موتُها.. تاريخ النظرة في الغرب»(1993)، وسوف تشكّل هذه الأطروحة لا مَحالة منعطفاً في اهتماماته، بحيث سينحو نحو تأثير وسائل الإعلام و الإتّصال على المجتمعات و العصر، و يَخلص إلى أنّ علم الإعلام في دراسته الوسائط وحدَه الكفيل بأن يجعل الفكرة قوّة ماديّة، و يكون بهذا قد أسَّسَ لثيّارٍ فكريٍّ جديد، و نظريّة في علم الإعلام.. الميديولوجيا.
إقامة هذا الصّرح، سيَدفع بدوبريه حتماً إلى اعتماد زاوية نظر مخالِفة تماماً لزاوية نظر العلوم التي تتقاسم معه المواضيع نفسها، و إلى إقامة مقارناتٍ بين مختلف العلوم، و بالتّالي زعزعة بعض الثوابث في بعض العلوم الإنسانيّة من قبيل علم الإجتماع، الإبستمولوجيا، السيميولوجيا، … بالإعلان أنّ:
ـ علماء الإجتماع مجرّد مؤرّخين فاشلين، أو فلاسفة مكبّلين، و أنّ علم الإعلام هو الذء سعى منذ نشأته إلى سدّ الفجوات المعرفيّة التي تركها التّاريخُ و علم الإجتماع التقليديّيْن مفتوحةً حتّى الآن.
ـ وأنّ الإبستمولوجي لا يُعنَى سوى بمعرفة الحقيقة فقطّ، في حينٍ أنّ الميديولوجيّ يهتمّ بتسجيل الآثار و الخُطوط،
ـ وأنّ السيميولوجيّ ما هو سوى أسير التحليل اللّغويّ والفكر الثنائيّ المقترن به، بينما الميديولوجيّ ثالوثيّ ممارِس يبحث عن العنصر الثالث، المرتكز المادّي مثلاً.
لقد أراد دوبريه تقديم تعليل لتلك القواعد الماديّة التي تشتغل داخل المجال الرّمزيّ. و في محاضراته ـ التي من بينها «في مديح الحدود» ـ يوضّح الأسُس و المقولات و خصوصيّات هذا العلم الجديد الذي دافع عنه بقوّة أمام «الإرهاب الأكاديميّ» الذي لم يَقبله كذلك.
في مديح الحدود
هذ الكتاب، تدوينٌ لمحاضرةٍ ألقاها دوبريه في البيت الفرنسيّ ـ اليابانيّ بطوكيو في شهر مارس 2010، وهي المحاضرةُ التي ستَلقى فيما بعدُ صدًى واسعاً بحيث ستُترجَم إلى عِدّة لُغات.
في هذه القراءة، يتعيّن علينا بدايةً أن نحدّد مفهوم «الحُدود» كما صاغه دوبريه في محاضرته هاته، وكما ارتفع به عن مفهومه الشّائع.. العَدائيّ و العُدوانيّ كما نَعيشه في بلادنا، وهذا حتّى لا يَلتبس علينا هذا العنوان (مديح الحدود)، الذي أراده دوبريه، بلا شكّ، ملتبِساّ ومرتبِكاً وملغوماً تماماً كما الحدود، وهذا ما ينكشف من غير مواربةٍ ونحن نتابع هذه المحاضرة التي نلفيها في واقع الأمر يَشتغل فيها هَجْوُ الحدود بقدر ما يَشتغل فيها مديحُها، فلا تَخرُج الحدودُ فيها عن طبيعة و أصول المخلوقات كما صوّرها دوبريه كذلك:
« جميع أصول الكائن الحيّ يكتنفها الغموض: فهي جدّابة و منفرة؛ مقدّسة و واقعة بين فتحتي باب البدن (الشرج و التناسل). إنها قاعٌ و كهف ( مَدفنٌ و مخدعٌ). الحدّ كذلك هو ثنائي القيمة. فهو محبوبٌ و مكروه، و هو «سام و ملعون»، مثلما وصف الصيني لوكسون سورَ الصين العظيم؛ فهو يردع العنف و يبرّره. يرسي السلام أو يطلق شرارة الحرب. يكبح و يحرّر، يفرّق و يجمع، شأنه شأن يربط و يفصل في النهر (نهر الراين أو الدانوب مثلا)، يربط و يفصل في آن معاً.» 1
غير أنّ دوبريه و هو يقرّ بالثنائية الضديّة لمفهوم الحدود، فإنّه يشتغل على تطويره إلى مفهومٍ أكثر انفتاحاً و إجرائيّة، و إلى نَحتِه كمفهوم ثلاثيّ المقاربة وهو الثالوثيّ كما تحدّث عن نفسه: «إنّنا ثالوثيّون ممارسون نبحث دائماً عن العنصر الثالث، المرتكز المادي مثلاً، أو الحامل العضوي للرسالة… بينما علم الدلالات يبدو لي معقماً من قِبل النماذج الثنائيّة المقاربة له كعمل» 2
مفهوم دوبريه للحدود كما نحته يستجيب للعصر، و لنظريّته بالتّحديد.
وهو إلى ذلك، المرادف للوسيط في الميديولوجيا
ليس من الصُّدفة في شيءٍ أن تُلقى هذه المحاضرة على أرض اليابان، و أن تَلقى، كما أسلفنا، صدًى واسعاً في أرجاء العالَم، ذلك لأنّ هذه الرّبوع تستجيب لتصوّر دوبريه للحُدود. و لا غرو أذن أن يبدأ ـ و هو يحاضر بطوكيوـ بالإنبهار باليابان و باليابانيّين و قد وجد ضالّته:
ـ « لا أعلم إن كان هذا مديحاً لكم، لكني لا أرى أحداً أكثر حدقاً من الياباني المعاصر في فنّ الغربلة و نخل كلّ الأمور الوافدة. و أكاد أقول إنكم لستم بحاجة إلى الأسلاك الشائكة، و لا للكوتا، و لا للرقابة، لتنقية و فلترة ما يرد من غذاء من الأزرق الواسع: السمك النيّء، و حروف الكتابة، و الشوارع الخالية من العناوين، و الأديان المتشابكة، و عباءات الكيمونو، تؤلّف كلّها، تحت سطحٍ فائق المعاصرة و من دون عقد نقص، نسيجاً من الخيوط الدقيقة لكن المقاوِمة بصورةٍ تبعث على الإنبهار و الدهشة.» 3
وإذ نورد أيضاً هذه المَقاطع من المحاضرة للتقرُّب أكثر من تصوّردوبريه للحدود (و هو يقيم مقارنة حدوديّة بين اليابان و فرنسا)، ثمّ بالتّالي ربط مستخرجاتها بالدّرس الميديولوجيّ:
ـ «أما أرخبيل، مثل أرخبيلكم هذا، فيستطيع أن يوفّر على نفسه توجُّسات المتاخَمة و هم ّ التجاور: إذ أنّ مداخله و نتوءاته لا تحمل أثر معاركه، بل تحمل نزوات شطآنه. و حتى لو كانت جزر الكوريل، أو تلك الجزر الصغيرة المتنازع عليها تعاني؛ فإن الجزر الكبيرة المكتحلة بالأزرق مثل اليابان أو أنجلترا، هي أقل تعرّضاً للتقسيم من الدول القاريّة مثل ألمانيا، و الصين، و روسيا و بولونيا، تلك الدول المحاطة بامتدادات لا نهائيّة. و لنضف إلى القائمة فرنسا.» 4
ـ «أمّا أنا، فقد أتيتُ من أرضٍ صلبة، خَدَّدها كلّها التاريخ. أتيت من أوروبا المتعبة بسبب حركتها الدائمة لزمنٍ طويل، أرض تفكّر في العطلة، و تحلم بمجتمع الرعاية و العناية، و قد جاهد ساستها لمحو حدودها اللغوية لصالح لغة موحدة هي ال غلوبيش، التي لا تحمل من الإنجليزية سوى الإسم.» 5
ـ « نحن دولة لا حدود لها، قال لي أحدكم ليس من دون بعض الفخر و الزهو. و قد كنّ لكم كلوديل الضغينة بسبب هذا إذ قال: «أيّها اليابانيّون قد كنتم سعداء جداً في حديقتكم الصغيرة المغلقة». و كان ذلك قبل أن تخرجوا بوحشيّةٍ من الحديقة كي تغزوا آسيا، ثم تُعاقبوا على ذلك بوحشيّةٍ أيضاً في عام 1945.» 6
ـ «فلا تظنوا ـ إن جاز لنا القول ـ أنني أتيت إلى طوكيو كي أمدح طبقاً وطنياً و تراثاً في خطر. لستُ إلا مجرد فرنسيّ ـ أعترف بذلك ـ يمْثُل أمامكم، يحف مذاقٌ قديمٌ بتخوم مسقط رأسه الهشة. و حتى الأمس القريب، كانت تحفّ بها خبرة تقنية معينة في رسم الحدود من دون استشارة الشعوب، من خلال تلك «الخطوط البيضاء المنقطة» للأطالس القديمة؛ في الصحاري، و في الشرق الأدنى أو في شبه الجزيرة الهندوصينية. و لحسن الحظ، فإن هذا الهوس الإستعماري ينتمي إلى الماضي، و يستمد خفّة يده من فكرة يصعب تقديسها: «أرض الوطن المقدسة».» 7
نستخلص من هذه المقاطع، و غيرُها كثير في هذه المحاضرة، أنّ دوبريه لا يبتعد و هو يفلسف الحدود، عن يقينه الميديولوجيّ و مشروعه المدنّس في معاركِه ضدّ الثوابث قصد خلع الهالة و القدسيّة التي تقف في وجه أيّ تقدّم:
«غالبيّة الشعوب ترتبط بعلاقات عاطفية و تامّة القدسيّة مع حدودها. فلننْزع عن اللفظ الأخير (القدسيّة) غموضه و ضبابيّته. و لنعط استراحة لما يتعذّر قوله. و ما يتعذّر سيره.» 8
و نختم بقَولٍ ساخرٍ لدوبريه في لاهَوَادتِه المعروفة في مجابهة التفاهة: « فلا شكّ أن تعبير (جمركيون بلا حدود)! سيكون بدوره رائجاً في المستقبل القريب.» 9
مصادر و مراجع
1ـ ريجيس دوبري، في مديح الحدود، ترجمة: ديمة الشكر، سلسلة كتاب الدوحة، 2013.
2ـ ريجيس دوبريه، في علم الإعلام العامّ: الميديولوجيا، ترجمة فؤاد شاهين و جورجيت الحدَاد، مراجعة فريدريك معتوق، دار الطليعة، بيروت، ط.2.
3ـ منى الهردي، تطوّر مفهوم الميديولوجيا في أعمال ريجيس دوبريه، عرض بماستر الأنساق السرديّة و البصريّة، كليّة الآداب و ع. إ. بالجديدة، موسم 2022/2023، إشراف ذ. حسيب الكوش.
هوامش
1ـ ريجيس دوبري، في مديح الحدود، ترجمة: ديمة الشكر، سلسلة كتاب الدوحة، 2013، ص.23.
2ـ ريجيس دوبريه، في علم الإعلام العامّ: الميديولوجيا، ترجمة فؤاد شاهين و جورجيت الحدَاد، مراجعة فريدريك معتوق، دار الطليعة، بيروت، ط.2. ص.39
3ـ ريجيس دوبري، في مديح الحدود، ترجمة: ديمة الشكر، سلسلة كتاب الدوحة، 2013، ص.12
4ـ نفسه، ص.10ـ11.
5ـ نفسه، ص.12.
6ـ نفسه، ص.11.
7ـ نفسه، ص.10.
8ـ نفسه، ص.24.
9ـ نفسه، ص.10.