قصة قصيرة : بائع الزعفران الحر

ـ الزعفران الحر.. الزعفران الحر..
جاء الصوت قويا من الخارج. نهضت مسرعا، حتى لا يبتعد، أو يختفي في أحد الأزقة المجاورة. فتحت الباب، وناديت على البائع الذي تجاوز البيت بحوالي عشرة أمتار تقريبا. نحن في شهر يناير. الطقس في هذا الوقت شديد البرودة. كل الجبال المحيطة بقرية (بومالن دادس) مكسوة بالثلوج.
ـ هل تبيع الزعفران الحر؟
ـ نعم.
من أي منطقة انت؟
ـ تالوين.
لم يسبق لي زيارة المنطقة، لكن سمعت عنها من ابن عمتي الذي عمل بها معلما لسنوات طويلة. ثم عرفت فيما بعد بأنها عاصمة الذهب الأحمر الذي تربع على عرش التوابل في المغرب.
المناخ الجاف، والشتاء البارد، والأمطار الغير منتظمة، والتربة، ظروف ملائمة لزراعة الزعفران بالمنطقة.
ـ بكم الجرام الواحد؟
أجاب الرجل بلكنة يغلب على مخارج حروفها اللهجة الأمازيغية:
ـ عشرة دراهم.
ـ أليس الثمن مرتفعا بعض الشيء؟
ـ لا يا سيدي. الزعفران الحر يأخذ منا جهدا كبيرا. نحتاج إلى يد عاملة كثيرة. هل تعلم أن جراما واحدا من الزعفران يكلف قطف وتقليم حوالي من 240 زهرة؟ وللحفاظ على جودته فالنساء في القرية يعملن في طقس شديد البرودة قبل شروق الشمس، فلا تحصل الواحدة منهن على أكثر من جرام ونصف في اليوم. لأنه بعد تجفيفه تفقد الشعيرات أكثر من 80% من وزنها الطازج.
تجاعيد وجه الرجل، ولكنته، ونظراته لا توحي بأنه يكذب.. طلبت منه أن يزن خمسة جرام. أخرج ميزانا صغيرا من الحقيبة، وفتح علبة من قصدير، وطلب أن اشم الرائحة العطرة للزعفران للتأكد من جدته وطراوته، وأخذ شعيرات بلون الدم، ووضعها في كفة، ووضع ثلاثة قطع نقدية من فئة(فرنكان وفرنك) في كفة أخرى، وأضاف:
ـ كل خمس سنوات أو ست، نقتلع بصيلات الزعفران، ونزرع محصولا آخر في الأرض، لنريح التربة ثلاث سنوات. نبدأ الزراعة في شهر يوليوز. نغرس ما بين 50 حتى 70 قرما في المتر المربع. ونعمل على سقيه، ونخصبه بروث البهائم. ونحافظ عليه من الحشائش والأعشاب الضارة. ونجنيه في نهاية شهر أكتوبر او بداية شهر نونبر. وينتهي عندنا الحصاد في ظرف أسبوعين تقريبا.
عدت إلى الداخل، وحملت صينية بكأس شاي، وكسرة خبز، وآنية بها زيت الزيتون، وقدمتها للرجل. أخرجت ميزانا صغيرا من جيبي، وزنت به الزعفران، فوجدت الكيل مضبوطا. فتح الرجل فمه وعينيه، وهو ينظر إلى الميزان الصغير المصنوع من ألمنيوم أبيض، يلمع مثل الفضة. وضع الخبز، وكأس الشاي، ومد يده، فسلمته الاختراع العجيب.
فحص الميزان، وقلّبه من كل جانب، وسأل:
ـ من أين جئت به ؟
قلت:
ـ حصلت عليه من صديق أمريكي.
ثم سأل مرة ثانية:
ـ ماذا تعني أمريكي؟
يبدو أن الرجل يعيش في منطقة معزولة عن العالم. في بداية الثمانينات من القرن الماضي لم يكن هناك أنترنيت، ولا هواتف نقالة. الكثير من مناطق الأطلس الكبير بالمغرب المنسي في هذه الحقبة ظلت أراض بكر، منغلقة على نفسها. كان الناس هناك مازالوا يعتقدون بأن المغفور له محمد الخامس هو من يحكم المغرب .
سألت نفسي: يا إلهي! ماذا تعني أمريكا؟ ثم قلت:
ـ أمريكا دولة عظمى! تبعد عنا بآلاف الأميال، ويفصل بيننا وبينها المحيط الأطلسي.
بدت علامات الاستغراب على وجه الرجل. يظهر أنه لم يستوعب ما قلت ، دققت وزن الفرنكات، والدهشة لم تفارق محيا الرجل، ثم أضفت:
ـ أمريكا التي صنعت هذا الميزان هي أمريكا التي صعدت إلى القمر!
ـ وهل صعدوا إلى القمر؟ لا تمزح معي! أنا لم أدخل المدرسة، ولم أتعلم! هل تبييع هذا الميزان؟ اعطيك مقابله ثلاثة جرامات من الزعفران.. أعطيك أربعة.. لا خمسة؟!
نظرت إليه بعين مبتسمة، وقلت:
ـ يمكن أن تأخذه كهدية، بشرط أن تتذكر بأن من صنعوه صعدوا إلى القمر.
ثم شرحت له كيف يعمل، وأن عليه أن يتعلم التمييز بين الأرقام.
أشرق وجه الرجل، وقال :
ـ هذه المهمة سأوكلها لابني، فهو يتعلم في المدرسة.
عندما يعود إلى القرية، سيجد لذة، وهو يحكي للناس بأن شعبا صعد إلى القمر، يفصلنا عنه المحيط وآلاف الأميال، هو من صنع هذا الميزان السحري.
مراكش 02 غشت 2023


الكاتب : حاميد اليوسفي

  

بتاريخ : 04/08/2023