الهوية الدلائلية للفضاء السردي في قصة « ينبغي» لأحمد الويزي

عندما نلج عالم القصة القصيرة أول ما يصادفنا هويتها ضمن السرديات، وأنى لها التمييز عن الأجناس السردية الأخرى. هذا الإشكال يجد ضالة امتداده وتقلصه عند نقادها، سواء الغربيين منهم، أو العرب براندر ماثيوز، وأكونور بيتس، وإدغار ألان بو، وموباسان، وغالي شكري، والعوفي، ورية، وأبو نضال.. ممن حاولوا التركيز على بعض طبائع خصوصياتها غير المستقرة بحكم هيكلها وبنيتها.. ما يؤهل تعاملنا في أفق انفتاح الأجناس الأدبية على بعضها البعض. وفي أفق التخييل الذي يمنحها تحرير رقبتها من قيود اللغة النقدية، والمعيارية معرفيا.. فنتوجه إلى كيفية ترويض اللغة السردية بمنطق الكاتب أحمد الويزي ضمن حجم مفهوم القصة القصيرة لديه من خلال التقاط عالم من عوالم المطلق التخييلي. ليس بمفهومه السريالي، وإنما من منطلق الهوية، وتراكماتها الكرونولوجية للذاكرة بكل اتجاهاتها، وفروعها لتفجير هواجس الذات الأنا، والذات النحن، ومدى تقاطعهما تحكما في البنى السردية التي تشكل قصته من واقع هذه الذات، وكيفية صياغتها بنوع من الإطلاقية التي تستدعي أدبيات الإبداع في صورة سردية لا تنتهي بانتهاء إحداثياتها/ خطوطها في جميع الاتجاهات. ولكن نافذة له ككاتب للقصة القصيرة…
وعندما نتأمل البناء السردي لقصته «ينبغي» يلفت انتباهنا تفرع لغته الوظيفية بما يناسب بعد الرؤية لديه، وكيفية محاكاة السهل الممتنع معجميا، حتى يتأتى له اتساع احتمالاتها السردية لكل الوقائع/ الأحداث التي تتخذ مكانتها من مساحة النص تنافراً وتآلفاً، وفي ظل ما يفكر فيه المتلقي أيضا.. وكأننا بعوالم هذا المتلقي من حيث استئثاره بالمشاهد المتكررة يوميا .. هذا الارتياد الذي يفرض ذاته علينا، أو نعيشه في حياتنا إقرارا بتراكمات الواقع السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، أصّل قيما فنية، وكرّس المعيش اليومي بدقة متناهية عمده الكاتب في بناء القصة العام، كما يُقِرّ ذلك إدغار ألان بو بأن «التكامل الشكلي في القصة القصيرة يجب أن يخضع دائما لدقة مقصودة..» بمعنى أن الكتابة القصصية الراهنة تهدف تحقيق الشمولية بتفاعل عناصرها فنيا داخل عالم النص، وامتداده إلى العالم الخارجي. كإمكانية تطالعنا قصة « ينبغي « بها، عندما اتخذت من بنيتها الشذراتية مساحة كافية لاستثمار الفعل الحدثي، انطلاقا من الموقع ومفعوله، ومدى جريانه في عروق هذه الأحداث دما لغويا يعيد تشكيل الراسخ في المتخيل، حتى ينساب مادة حكائية ملموسة في بنائها السردي/ القصصي بطريقة تحاكي المألوف، وترقى به إلى عوالم توهمنا بسياقاتها في ظل حصار مساحة القصة جغرافيا.. بمعنى كما يقول نيتشه «ليس هناك أحداث موجودة بحد ذاتها.. يجب دائما البدء بطرح معنى ما، حتى يمكن وجود حدث ما «. هذه الحتمية، انتقى لها الكاتب القوة المناسبة التي تُفَعِّل مكونات القصة الأخرى، وتتفاعل معها بمنطق التجانس بين الواقع والكتابة.. إنها المقهى لتخطي ما هو حسي إلى هذيان القراءة بمتابعة أثرها على تفكير القارئ.. محاولا بذلك فك الخفي كلما تشعبت دلالاته. وكلما أضحت الوقائع صورا فوتوغرافية، بعد أن سلبت منه أطرها الداخلية والخارجية. فالويزي في نظرنا كما يقول جبرا ابراهيم جبرا « كغيره من المثقفين اليوم يجابه إشكالية متعددة الأوجه، وهي إشكالية معقدة تتداخل عناصرها وتتفرع .. يتعامل معها بوعي وإراده «..
إذن هناك وعي بالمكان وهويته. هذا الوعي هو الذي جعل اللغة القصصية تعمل على تفرع علاقاته، وتعميقها بتذويب واقعه السردي في واقعه الواقعي، كما « قرية ود حامد ر» للطيب صالح، و” فلسطين « لحبيبي وكنفاني، و» القاهرة القديمة « لمحفوظ، و» بيروت « لإلياس خوري، و» المحطة السككية « لإدوار الخراط… وغيرها …
إن الكاتب واعٍ أيضا باختيار فضاء « المقهى « مسارا لقصة « ينبغي « بانفتاحها على عوالم معرفية أخرى، لا تستقيم إلا بعد الكتابة. فالتفكير المسبق الذي اهتداه الكاتب في تأطير قصته بنيويا من حيث استلهامها أجناسا أخرى هو إدراك منه لكيفية كتابة القصة من داخل القصة.. بعدما اتخذ الحكي فيها مجرى السرد المقالي، ليفسح المجال إلى ما يمكنه أن يؤسس نوعا من الثقافة السردية التي تخرج عن مرتكزات السرديات، وتصبح جزءا هاما منها. أو هي تمنح فرصة اتساع السرد في احتضانه أنماط أخرى وجدت سياقها السردي دون أن تكون عبءاً على مجريات القصة. هذا التوظيف انتقى له فعل “ينبغي « كلازمة يفتتح بها شذرات قصة « ينبغي «. وتفتح هي بحركيتها مجال التنظير بمفهومه النقدي كوسيلة سردية في استمرار تعيين موقع الأحداث « ينبغي لأطوار هذه القصة أن تجري في مقهى «. إن محاصرة المتلقي بموضوعية المكان يجعله يلامس المتخيل بكل قدراته المختلفة، دون أن يشعر ببعده الإبداعي من خلال تكييفه بخياله ويقظته كما يراه باشلار بمعنى ما، أن « الخيال يلغي موضوعية المكان كظاهرة هندسية «. إذ المقهى عند المتلقي وشم عالق بالذاكرة يخول له النظر إلى الأحداث منها وفيها إلى خارجها. أي أن رمزية المقهى تتيح إمكانية توسيع أفق التلقي فزكريا تامر عندما اتخذ المدينة كمكان لم يحدد هويته الجغرافية. لقد ترك للقارئ تمثله أنّى أراد.. لذلك لم يقف الكاتب عند الفضاء. لكن حاول أن يبرر ضرورة وجوده من خلال تصوره للقصة القصيرة ضمن هذا الوجود «.. عليها أن تجري.. في مقهى.. إذا أرادت أن تكون قصة قصيرة .»
إن الإصرار على « المقهى « الملاذ الآخر، الاستراحة الذاتية من شيء، ومن لا شيء، كما هو عالق بالذاكرة « ليست فرسا ولا مهرا لتجري، وليست ميدان سباق”. هذا الملاذ يعيد إنتاج الأحداث التي تجري بغير شكلها الأفقي المعتاد.. وإنما تسمو بها إلى عالم القصة، حيث يجد المتخيل السردي ضالته بين الواقع والمحتمل « عليها أن تجري حد اللهات في مقهى « دون أن نغيب ما يمكن أن يتناسل منها بمواصفات جديدة تؤثثها أمكنة غير طبيعية كما سنرى.. وهذا ما يميز في نظر إدغار ألان بِو أدب ما بعد الحداثة في تشعب علاقاته بين الواقع والخيال، وبين الذوق بمختلف أشكاله. أي ما يمنح الكاتب القدرة على إدراك البعد الجمالي والفني للعالم، ثم التعبير عنه في سياقات متعددة.. وما يمنح القارئ مصداقية الإحساس بكينونته، حتى لا يتخلى عن الأفكار التي يستثمرها حدثيا من خلال تداخل الملموس والمجرد، بعيدا عن رتابة الفراغ الذي تمتلكه المقهى. بمعنى أن بناء المكان باللغة يفسح المجال للتعدد الدلالي، ويصنع شخصياته بالشكل التي تبحث هي عن مواقعها الخاصة داخل المقهى، ما يمكننا من مقاربة صورته عند جينيت « هي في ذات الوقت الشكل الذي يتخذه الفضاء، والشكل الذي تعطيه اللغة لنفسها، وهي رمز فضائية اللغة الأدبية ذاتها في علاقتها بالمعنى «
هذه المقاربة تعيدنا إلى أهمية التداخل بين النقد والسرد القصصي» ينبغي لكاتبها أن يكون…» أو لنقل كيف يتخلص السرد من النقد في نفس السياق الذي حتمه على النقد مسبقا، حين يصبح التنظير آلية لتداعي عناصر السرد الأخرى، التي تثبت خصوصيته من حيث مواصفات الكاتب كما يقترحها الكاتب. من شأن هذا أن يفتح الرؤيا عن طريق النظر والتفكير « عينان بحجم فناجين القهوة التي يتركها تبرد كل يوم «. أي اجتثات الذي يصلح للكتابة القصصية من مصادر متعددة تستميل قوة الإحساس الداخلي للكاتب عن الكاتب. إذ يصبح الكاتب / الشخصية صورة مصغرة داخل محيط التخييل والإبداع بالتقاط ما يجري أمامه، وما يتداعى لتأصيل نوع الكتابة القصصية لهذا الالتقاط، ملموسةٌ أحداثه، أو مجردة تترجم بدورها إلى الملموس « يرى ما يجري حولة .. وخلف الزجاج .. وما يجري برؤوس الناس.. وما يجري فوق الصفحة البيضاء..” هنا لا نستبعد اتساع حركية السرد، عندما يتسع أفق التخييل في بناء القصة فيصبح « كل خيال يندرج إذن في فضائنا كرحلة « بتعبير ميشال بوتور. أو هو التوالد المستمر للمتن الحكائي قبل أن تستقيم علاقاته داخل المبنى من موقع الموقع، أو الفضاء « المقهى « إذ المادة الخام تصلح للكلام « … في كل شيء بألفاظ الفضاء « حسب جيرار جينيت كما في القصة « مثلما يتكيف مزاج الكاتب مع ما يجري حوله، ومع أمثاله.. أن اخترقوا عليه عزلته وقطعوا عليه حبل الرؤية والرؤيا.. فترك الأحداث تستريح من جريها في إسطبل الورقة «. نلاحظ أن الكاتب في صياغة الأحداث من منظور السارد/ الكاتب الشخصية/ الذي هو الصورة الفوتوغرافية لغويا كما تجسدها المقهى في وجوده، كي يلملم ما تبعثر منها، بعدما خضعت للثوابت والمتغيرات الناتجة عن تأمل الذات فيها، بالتهام كل ما يتم بالعين المجردة، سواء أكانت جرائد، أو مواقف من المارات أمام المقهى لتعرية النزعة / الرغبة التي تمتلك ثقافتنا مهما اتسعت مرجعياتها معرفة وإبداعا « ينبغي لتينك العينين الزجاجيتين بعدما تلتهمان حصة الأخبار.. أن تنغرزا في المؤخرات العابرة.. تفتشان عن الأحداث الحكائية المتخفية..” هذا الإدراك يتمثل تمثلات الإنسان العادي في مجتمعنا. مما يبين نفاذ الكاتب إلى إثارة هذا المسكوت عنه، واختراقه مادام نسيجه يساهم في بناء متخيل الأحداث، ويقترب به أكثر إلى مكنونه، كي يعيد إحساسه بشكل علني من خلال القصة.. وهو الهاجس الثابت في ذواتنا كما يراه أدونيس مصالحة مع الموت الزمان، كلما غدت الأنثى إشباعا مؤقتا للذات والتفكير.. « مؤخرة من هنا، وحقيبة يد عابرة من هناك.. «
إن المادة التي تؤثث تيمات تفكير الأديب أو الكاتب ليست إلا محطة للإبداع كيفما تراءت بعيون الكاتب الرؤيوية البعد. وليس الكاتب / الشخصية بعد أن تصير هذه الأخيرة جزءأ من متخيله وإبداعه.. « فينتظم عقد القصة المطورة، ليصير بناؤها قابلا للسكن في ملحق الجريدة « هذا التقاطع والتداخل يجد تبريره عندما يلج عالم المتخيل تفكيرا، وكتابة، وتدوينا بالجريدة بعدما خصص لها الكاتب زاوية التقاط تصوير وتصور كشخص وواقع..» فلا حرج على الكاتب أن يرفع عينيه المدربتين على الصيد إلى اللوحات المعلقة، أو يرسلهما .. لتتشمما رائحة حكاية.. بعدما يكون داسها سهوا..” هنا تكمن العلاقة بين المكان، وانتقاء اللغة باستعارة الألفاظ المناسبة له بمفهوم جينيت في F1 . ولا يمكن تمييز الفضاء الجغرافي عن الفضاء الحكائي بتعبير حسن بحراوي سواء تضمن مرجعه، أو نتخيل وجوده خارج النص.. لأن تأطيره لم يحتوِ سمات مقهى بعينها كي يتسنى تشخيصه نموذجا عالقا بذاكرة القارئ ويؤثثه بالمواصفات التي لحقتها من طرف الكاتب ( ما يجري خلف الزجاج بالخارج.. )
إن عملية الاستنساخ التي يقوم بها الكاتب لأطوار « ينبغي « تقلص مساحة المكان كمنطلق للأحداث، من حجمه إلى حجم الجريدة وهي تقتحم حجمه من جديد « يدخل القارئ رحاب المقهى وفي يده الجريدة « هذه التوليفة تفسح مجال سخرية الكاتب عن واقع الإبداع والوسائل التي تمرره « تنشر قصة ساخنة الأطوار على صفحاتها الضيقة بالإعلانات : قصة الكاتب الذي يرى العالم كما ينبغي من خلف الزجاج». هذا الاستنساخ يترك هامشا متسعا للقارئ في إعادة صياغة القصة بمنظوره، فيصبح مفهوم الفضاء كما يفسره تودوروف لدى باختين مفهوما شاسعا لنموذج عالم النص، ولكونه يحمل رؤية فلسفية في بعدها الجمالي..
ليست الغاية هنا رصد المكان في انغلاقيته. فالانغلاق صورة ذهنية تُخترق عندما نعتبره كما يقول حسن نجمي « .. في النهاية لن يكون إلا فضاء وهميا وفضاء إيحائيا « كلما أسهمت اللغة في ملئه حركة وصمتا، كي يتسع لعوالم متعددة لا تقتصر على حيتيات المكان الأصلي، وإنما تمتد دلائليا للإحالة على بنائه الدائري المغلق، كشكل آخر للكيفية التي يُتْرَكُ منها إلى كيانات تعود بنا إلى انطلاقه من خلال زاوية الرؤية المفتعلة من الكاتب ضمن شعرية المحكي. فالجريدة كبنية لهذه الزاوية تمتلك كل ما يحتوي المكان / المقهى « ينبغي لهذه القصة أن تقرأ في المقهى .. قصة الكاتب الذي يرى العالم كما ينبغي من خلف الزجاج.” . أي أن « الفضاء النصي .. مراقب بواسطة وجهة النظر الوحيدة للكاتب « كما تشير إلى ذلك كريستيفا. ففضاء الكتابة/المقهى بمنطق الكتابة القصصية خوّل للكاتب كشف سلطة الذات المبدعة لشخصية الكاتب المحور، كي يتسنى للمتلقي استيعاب الأحداث في تحديد الغاية من مصيرها..
إن تقليص هذه المساحة على مستوى اللغة، تجعل منه حمولة متنقلة، يصغر بالجريدة، ويكبر بها على مستوى القراءة، أو إعادة دخوله في ذاته من خلالها.. حتى تتم إمكانية تشخيصه من جديد في لاوعي القارئ وإمكانية وعيه . هذا التقاطع بين صورة المكان في الذهن وحسيته في القراءة كفيل أن يصير القارئ جزءا من القصة بدل الاستمتاع بها فقط. وبتعبير فيليب هامون يتدخل القارئ برصيده الثقافي كي يقوم بتركيب جديد للنص..
إن القدرة على الرؤية داخل الرؤيا من منظور الكاتب أحمد الويزي، لا تستعير ذاتها إلا بوجود الحس الحكائي ضمن ما يزخر به البعد التخييلي لمصالحة الأحداث فيما بينها، ثم تبديدها داخل التصور الذي يليق به ككاتب، وكقوة تمفصل لكل الأحداث التي تنجم عنها داخل المقهى. أي تداعيات لكيان الذات الكاتبة والمتخيلة والمنظرة بمعنى ما، والذات الحاضرة في القصة، وهذا التماهي أيضا يتقاطع مع الذات المتقبلة بمختلف أطيافها الثقافية، والقرائية، والإبداعية، لفهم دلالة قضايا الإنسان في الحياة..


الكاتب : أحمد السالمي

  

بتاريخ : 11/08/2023