فتاوي ما تحت الحزام في حاجة إلى فتاوي

محمد بادرة

صراع الفتاوي في عصرنا الحالي يعد من أخطر أنواع الأسلحة الفتاكة التي تصيب مجتمعاتنا العربية الإسلامية في المقتل سواء على المستوى الفردي أو العائلي أو الاجتماعي، والأخطر من ذلك أنها تحولت في عدد من البلدان إلى أداة نشر وتوجيه ودعاية لسياسات مخالفة للشرع الإسلامي أو على الأقل أصبحت أداة للمغازلة السياسية والملاعبة الاجتماعية والقمع الفكري والسياسي بل إنها وصلت إلى حد إشعال نار الفتنة بين المسلمين في ما بينهم، بين طوائفهم ومذاهبهم وشيعهم مع إلهاء العقول عن الأهداف الدينية السمحة والمقاصد الشرعية الصحيحة.
من خلال استقراء واقع الفتوى في التاريخ المغربي نلاحظ أن الدولة المركزية كانت دائما تستفتي العلماء فيوافقونها في أمر وقد يعارضونها في أمور أخرى، وكان ذلك عاملا وراء المكانة التي حظي بها العلماء عند المغاربة وجعلت منهم قدوة في الصلاح والإصلاح، ومن تم كان لمهمة الافتاء شأن خطير في حياة الفرد والجماعة، وقد كتب ابن خلدون بشأن الفتوى في المغرب فقال (وأما الفتيا فللخليفة تصفح أهل العلم والتدريس، ورد الفتيا إلى من هو أهل لها وأعانته على ذلك، ومنع من ليس أهلا لذلك وزجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم، فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل، فيضل الناس) المقدمة ص 22. هذا الكلام الخلدوني يحمل على الاعتقاد بأن اختصاص الفتوى هو في عداد الخطط الرسمية للدولة .
وفي عدد من البلدان العربية والإسلامية تشير الكثير من الروايات والدراسات المنشورة في هذا المجال إلى عدم التزام الكثير من الفتاوي بالقواعد العامة لشروط الفتوى والمفتي من قبيل الالتزام بالنصوص القرآنية والسنة النبوية وأقوال الصحابة مع اجتماع الأمور الثلاثة في المفتي (الدين والعلم والورع) حتى صارت الفتاوي عبارة عن حرب الخنادق والشوارع بين المختلفين من أهل الملة الواحدة ثم انتشرت كالذباب الإلكتروني على الشبكة العنكبوتية مما أدى إلى التضارب في الفتيا وصار العوام من المسلمين يتخبطون في أخذ الفتاوي إلى أن استبدل الراسخون بالعلم بالراسخين «بالشهرة والكاريزما الإعلامية»، وهوما ساعد على تواتر مواقف المزايدة والنفاق في بعض فتاوى العلماء رغبة في الدعاية عن الذات والإكثار من القول والظهور على الشاشات الزرقاء دون التمحيص عن الدلائل ودون الالتزام بالضوابط والقواعد الشرعية. مثلا قد يرفض عالم سعودي أو بالأحرى عالم سني فتوى الخميني بهدر دم الكاتب سلمان رشدي لأن تلك الفتوى في نظرهم لم تكن صادرة لدواعي دينية بل لأهداف سياسية خدمة لنظام الدولة « الملالية « الدينية في إيران. وإن مثل هذه الفتوى لا تخدم سوى سياسة الدولة التي يعيش فيها المفتي فيعارض باسم الدولة ولا يعارض باسم الدين بدافع الهجوم على الخصم وليس دفاعا عن الدين أو حرية الفكر والتعبير. إن مثل هذه الفتوى قد تستخدم حينا للاستقطاب والتزلف للجماهير وقد تستخدم أحيانا أخرى للضغط والقهر.
إن الفتوى تحولت كما يراها أحد الكتاب إلى ما (يشبه جهاز الكشف بالأشعة تحت الحمراء تقدم تشريحا مقطعيا لما يدور في أعماق المجتمع وجنباته غير المرئية .. وتعكس بوضوح حال التفاعل الحادث بين أطراف المجتمع في مستوياته العليا والدنيا وما وصل إليه حال المفتين والمستفتين وغيرهم).
حال الفتاوي في مجتمعاتنا الإسلامية المتمسكة بأصول الدين الحنيف والمعتنقة له بالفطرة هي أشبه بحال المحب (المتيم ) الذي لا يمكنه أن يستغني عن الفتوى لأنه متدين بالفطرة ومتمسك بأصول الدين وشرائعه. هذا الحب الصادق هو ما خلق بيئة من الصراع والفوضى في الفتاوي فتلعب الفضائيات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي (دورا مشبوها حيث تغذي حالات الارتباك وتخلق جبهات عداوة واستعداء بين العلماء، وبعضهم البعض، وكذلك بينهم وبين جمهور المستفتين).
ساهمت الفضائيات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي في تغيير قواعد اللعبة بمنحها الفرص للجمهور أن يخلع رداء الحياء ويتعامل مع أمور الدين مثل أي مادة إباحية أخرى حتى اختلفت الأمور بشكل مريب وسمحت بطرح أسئلة أكثر فجاجة وبأساليب أكثر انحطاطا في لغة الخطاب.
نقرأ في إحدى الموسوعات الفقهية لدولة خليجية أن الممثل الذي يطلق زوجته تمثيلا يكون قد طلقها بالفعل بالرغم من أن شرط الفعل هو النية. والسؤال الذي تردد لماذا لا تكون الفتوى قياسا أن كل من تزوج في التمثيل قد تزوج بالفعل؟ !!!
ومن الفتاوي التي نسمعها أو نتابعها في سوشيال ميديا، ما يدل على اغتراب الفقيه عن واقعه من قبيل فتوى (حكم زواج الإنس من الجان !!) أو فتوى عن (حكم طالبة طب تشرح رجلا في مشرحة وتفتى أن تطفئ النور وتشرح الجثة في الظلمة حتى لا ترى أعضاء الذكورة) أو فتوى (حكم فتاة شابة ترتدي الحجاب ومعها كلب في غرفة النوم وتفتى أن تخلع الحجاب امام الكلب إن كان أنثى ولا تخلعه إن كان ذكرا) مثل هذه الفتاوي وغيرها أو ما شابهها، والتي نتابعها في بعض المواقع الفضائية الشاذة تكون بعيدة عن الواقع وعن حقيقة الدين الإسلامي الحنيف.
وهكذا ضاعت هيبة العلماء والمؤسسات الدينية حتى بين العلماء انفسهم فأهينوا وهانوا وكانوا اكثر هوانا على الناس فاستباح الفتيا كل من هب ودب حتى أولئك الذين لا يجيدون القراءة والكتابة. فما بالنا بحسن الفهم وسعة الادراك والالمام بعلوم الدين.
لقد تسببت الفضائيات في فظائع وكوارث مخجلة وفتاوي مخلة بالشروط الشرعية المطلوبة في الفتوى بعد أن فتحت قنواتها لأشباه العلماء المتلاعبين بالعقول المتربصين بالأمة ليفتوا في (السارق والسارقة) وفي العقوبات (حدودا وتعزيرا) وفي (معالجة العقم بالتلقيح الصناعي المباشر أو في الأنابيب المخبرية)، وفي (العمل الوظيفي في المصارف الربوية)، كما رأيناهم يفتون في (إثبات الأهلة بالرؤية البصرية أو بوسائل الاتصال الحديثة) وفي (الفن والموسيقى والرقص)، ونصبوا أنفسهم علماء أوصياء على الأمة باسم الدين في الظاهر ودفاعا عن الجاه والمال والسلطة في الجوهر، فانحرفوا عن الضوابط التي وضعتها الشريعة، واستولت عليهم نرجسية مرضية قوامها التعصب والشذوذ، وتحولوا إلى قضاة يحاكمون كل اجتهاد ويقفون له بالمرصاد.
إن الفتوى هي توقيع من الله تعالى وعن رسوله (ص)، والمفتي وارث للعلم النبوي، وعليه أن لا يخرج عن حالين، إما أن ينقل ما بلغه من الشريعة وإما ان يستنبط منها حكما. فالأول يكون فيه كالمبلغ والثاني يكون في حكم النائب عن المشرع لأنه يشرع الحكم باجتهاده، وهو في هذا الوجه شارع واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله. هكذا الافتاء وهكذا يكون المفتي. وليس من الافتاء والمفتين من يقفون أمام الشاشات الفضائيات الزرقاء أو عبر الانترنيت ليحرموا كل شيء (الفن حرام والفنانون زنادقة..) لقتل الحياة والإبداع باسم الدين.
فكفى من فوضى الفتاوي التي تنفث كالسم من الفضائيات.

الكاتب : محمد بادرة - بتاريخ : 12/08/2023

التعليقات مغلقة.