«منطق المعنى» في القصة القصيرة جدا عند الأديب مصطفى كليتي

 

في كتابه «منطق المعنى» يشير جيل دولوز إلى أن المفارقة هي التي تحدد وضع المعنى واللامعنى وتموضع مكانهما، والمقصود بالمفارقة هو قصد معنيان في آن واحد.مثلا الجون وهو الأبيض و الأسود في نفس الوقت.الجون كلمة أو لفظة مفارقة أي من الكلمات الأضداد. والمنشود من المفارقة من الناحية التشقيقية فكرة أو قضية مفاجئة مقلقة قد تذهب في عكس اتجاه الحس المشترك وتثير الدهشة والذهول عند إدراكها.وتعتبر السخرية من ملامحها البارزة من خلال صياغتها كنكتة.
القصة القصيرة جدا لا تهتم بتصوير المكان والزمان ولا بوصف الأشخاص، إنما تولي اهتمامها للحدث أو الموقف أو الوضع في نفس قصير جدا لا يتجاوز السطر الواحد إلا قليلا.
«فقط» ليست فقط مجموعة قصصية قصيرة جدا، بل هي قصيصات زائد أضمومات مضيئة لها من طرف بعض رواد القصة في الوطن العربي .فقط كلمة مركبة من فاء وقط بمعنى لا غير، فحسب، ليس غير،وتقرن بالعدد لئلا يزاد عليه.
وزع الأديب مصطفى كليتي مجموعته هاته «فقط» ـ قصيصات. الصادرة عن سليكي أخوين.طنجة.2017.إلى أربعة أركان:
1 ـ مسامع القلب.2 ـ «سين»شاهد عيان.3 ـ «زوم»على تلك الشجون.4 ـ أخبار عن الحاكم بأمره.إضافة إلى إحدى عشرة إضاءة تومض وضّاءة بأسماء أصحابها من أدباء ونقاد يسلّطون فيها الضوء على المجموعة القصصية «فقط».
من المميزات والخصائص التي تميّز هذه المجموعة والتي تمنحها منطقها ومعناها وتؤكد أصلها و فصلها: الاقتصار والاقتصاد والتكثيف والمفارقة ،والإضمار والنكتة والعجاب والتلميح والإيعاز والإيجاز والاختصار والابتسار.
أما الاقتصار فهو الاكتفاء بالقول وعدم تجاوزه إلى غيره.. والاقتصاد هو الكتابة بحساب ودقة والتكثيف من كثّف قوله أي ركزه والإضمار من أضمر القول أي أخفاه والنكتة هي الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس والعجاب ما يثير الإعجاب فيكون مستظرفا مدهشا، والتلميح إلماع وإشارة وومضة خاطفة، والإيعاز من أوعز وأوحى والوعز هو التقدمة في الكلام والتقدم فيه وأوعز إليه في كذا بمعنى أمره أن يتصرف فيه..وأوجز في الكلام أسرع فيه ولم يطل قلّله واختصره..وكان بليغا والاختصار هو الاقتضاب والاقتضاب هو الانتقال مما انفتح به الكلام إلى المقصود من غير مناسبة، والابتسار هو الإعجال قبل الآوان..
كل هذه الخصائص و أخرى تجري مجراها ومثواها، تمنح للقصة القصيرة جدا صفة «قصيصات».من حيث الكم أقصر قصة في «فقط»لا تتعدى سطرا واحدا نعثر عليها في «ص104» تحت عنوان «استحالة»: «عبر خرم إبرة، مرت قوافل، وتعثر عند ثقبها خيط». وأكثر من سطر قليلا هناك:شراب(ص12)، ومسامع القلب (ص 13) ورجفة (ص16)وذوبان (ص 17)وقلب رطب (ص 38) وطلقة (ص 39)….كل هذا التكثيف فيه تركيز شديد وإضمار للمعنى :عبر خرم الإبرة أي من زاوية ضيقة للنظر يمكن رؤية جحافل من الإبل المارّة كما يمرّ القطار عبر فم المتكلم حين يلفظ لفظة قطار ورغم ذلك نجد صعوبة جمة في تمرير الخيط من سم الإبرة .المفارقة هنا هي أساس المعنى حتى وإن إنبنت على اللامعنى. لنأخذ أي أقصوصة من المجموعة سنجد تلك هي خاصيتها. ففي «ذوبان»(ص17)تجلت المفارقة في تزاوج القسوة والليونة بينهما كانت لججها من ملوحته.وفي «رجفة»(ص16) تناغم نبضهما واشتبكت أيديهما فلم يعد يدري أين يده من يدها.وفي «طلقة»(ص39)مناجاة عصفورين في أعلى غصن شجرة .دوي بندقية نفثت ريش أحلام. فلهث الكلب الصياد راكدا. ومقايضة الدم بالأكل تفرز الغثيان»تجشؤ»(ص47).وفي «هباء»كل الوقت مقهى. والقهوة باردة كذكريات حزينة. وفي الجريدة أخبار جريمة. بات «سين»جثة باردة في مرمدة ضحية سجارته.(ص49). وفي»العطور..»وضع»سين» أسراره في قارورة عطر، لمّا تعطر فضحته»(ص65) وهلمجرا..
المفارقة في كل هذه القصيصات تنبني على معنيين واحد مباشر والآخر غير مباشر: الخيط و الإبرة / الإبل وزاوية النظر.القسوة والليونة / ملوحة المسام.انسجام جسدي / تلاحم أبدي.كما تتآلف في معنى مقصود وآخر غير مقصود:عصفوران . دوي بندقية. تطاير الريش. كلب يجري (معنى غير مقصود).خليلان.عاطفة قوية.أحلام.لهاث وزفير(المعنى المقصود).(ص 39).
فهنا القصة القصيرة جدا تجري جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية.كقول الأديب مصطفى كليتي في أقصوصة «قناعة»(ص124):»هرم أسد الغابة، فانزوى، هدّه الجوع ،فاقتات من خشاش الأرض»، وهي مهداة إلى «أسد» القصة القصيرة زكريا تامر.أو في بلاغ رقم واحد (ص 121)إذا تذكرنا بلاغات المشير محمد حسنين طنطاوي (مصر) أدركنا القصد. هكذا فالقصة القصيرة جدا هي فن قول قول من دون قوله حقا وحقيقة، كأن يريد الكاتب الحديث عن مومس وصفها بالحرباء (ص58)تخاتل «سين»المحب المتيم وتوسع فخديها لمخاط مدينة في آن واحد.
عند الانتهاء من قراءة أقصوصة ما، غالبا ما يحصل للقارئ عكس ما كان يتوقعه. وهذا ما يسمى في نظرية التلقي بكسر أفق الانتظار. ينتظر القارئ ويتوقع بناء على العنوان وعلى المعطيات الأولية السريعة للحدث نهاية ما أو حلا معينا وإذا به يفاجأ بغير ما كان منتظرا، والقصد من هذه المعاكسة الإثارة والتشويق.لنأخذ مثلا أقصوصة «الغولة» (ص34): دادة عجوز شمطاء.كانت الأمهات يخفن بها المشاكسين من أطفالهن. وكان هؤلاء يعاكسونها .مرة باغتت «سين»ـ و عكس ما كان متوقعا ـ ملأت جيوبه بالحلوى وقبلته، وتركت لديه وقعا طيبا. وهذا هو العجاب :قص مستظرف مدهش .أما النكتة والتي تحمل في طياتها التهكم والسخرية فنلمسها في الأقصوصة التالية: «تلفان»(ص52):»سين»أحبطه المرض، فنصحه الطبيب بالتردد على مهرج المدينة، كل المرضى تحسنت أحوالهم بفعل البسط والانبساط.تنهد «سين»بحرقة وقال: أنا هو المهرج،دكتور.
والإيجاز في الكتابة الذي لا يتخلله طول ولا حشو ويكون بليغا نعثر عليه في»ذبابة الحان»(ص83)»عباد باخوس، يتساقون الكؤوس، ودبيب النشوة يطرب النفوس، فكانت في ردهات الحان تنوس ، مانحة القبل ناشلة الفلوس» والذبابة هنا هي من فراشات الحانات.
في أقصوصة»روما لم تحترق»(ص111)، ندرك جليا الاقتضاب والإضمار.هذا الأخير يبدو في كون كل الطرق ما زالت تؤدي إلى روما وإذن روما لم تحترق.أما أوتار نيران غضب التنين فالتهمت أصابع نيرون ألما لا ضحكا.
إذا كان الإيعاز هو التقدم في الكلام والأمر بالتصرف، فإن الاستهلال القرآني الذي تصدر المجموعة والذي جاء فيه: « فاقصص القصص لعلهم يتفكرون»، يعتبر اقتضابا لكل ما ورد في المجموعة «فقط».فهي كلها آيات وعلامات للتفكر والتأمل والتصرف، سواء في تلك التي جمعها فؤاد القلب أو تلك التي شهد عليها شاهد عيان أو الأخرى ذات الطابع السياسي التاريخي للحاكم بأمره.
والقصة القصيرة جدا هي في الأخير من الابتسار، وهذا الأخير هو إعجال و تعجل يتم في ما بين قبل الآوان وفوات الآوان حين يلتقط الحدث في آنه بالضبط ويقع تصريفه قبل الفوات مثلما حدث قبل الآن. نلمس الأمر في قصة «فوات»(ص117).الحدث فيها قبل الآن فتح الأندلس بعد فوان الآوان إعادة فتح الأندلس.فيما قبل حرّاق السفن، فيما بعد سرّاق الزودياك.فيما قبل إصدار رايات حمر فيما بعد رفع رايات بيض.بين طارق بن زياد وعوليس هناك مغارة هيرقل.
سر متعة هذه المجموعة هي هذه الخصائص الإثنتي عشرة.


الكاتب : إدريس كثير

  

بتاريخ : 18/08/2023