قصة قصيرة : رسالة إليهم

 

يختارون الوقت ليحاصروك دون أن تكون هنالك إشارة ما أو تشويش يثير انتباه أحد، فها هم أولاء وقد حضروا في كامل أناقتهم، بوجوه ضاحكة كما لم تكن يومًا، بل وبأجمل صورة تحتفظ بها ذاكرتك عنهم، لكن هذا الصمت الذي يُجَمِّل كل لقاء بهم، يكاد يخيفك هذه المرة، فكأن الأمر يتعلق بتواطؤ، فلا واحد منهم يتجرأ على أن ينبس ببنت شفة ، فهم يعرفون عن أنفسهم أنهم سبق لهم أن رحلوا، وأن حضورهم لا يدل على عودة ، أو أنه لا يتجاوز الزيارة أو الحلم، فلو تكلم أي منهم فسيخبرني ولا شك بوقت ذهابي معهم قريبًا أو بعد حين ، الذي يبدو أنهم يعرفونه، ومع ذلك فهم لا يشبهون مثلًا ، فريقًا من زوار الفجر الذي ٍيطوق في العادة منزلا، لينتهي الأمر بأخذهم لعزيز ما، أسيرا أو معتقلا، لكن هؤلاء أحبائي، وهم يطوقونني كما ترون، من فرحتهم بي، حتى لأبدو أمامهم ، متأثرًا بحفاوتهم والتفافهم الحار حولي مثل عريس تحيط به عصبة من رفاقه في مشهد مألوف في أعراس مدينتي، يريدون أن يسحبوني إلى حفل خاص أودع فيه مرحلة من حياتي انتهت، ولأستقبل أخرى، لكنني قد امتلأت روعًا مما يحيط بي، فأنا قد سبق لي الزواج في وقت سابق، ثم إنني ـ كما أعترف الآن ـ أبلغ من العمر ما لا يسمح بأي زواج جديد، وإن بين هؤلاء أشخاص رغم بشاشتهم، من تفيض عيونهم بما لا يريدون أن يصرحوا به.
فيا قلبي إنني وجل مما يدعونني إليه، رغم أن بعضهم خاصة أصدقائي ، ومنهم أقارب وأهل وأحباب أهل، لكن لماذا يبدو الأمر وكأنه لا يعني غيري، كلهم يقاربونني في السن، بل إن منهم من اختار الذهاب منذ ما يقارب الخمسين حولًا، فقد كانوا شبابًا ، فكان ذهابهم عنا مؤلمًا، ومنهم الشيخ الوقور الذي لم يختر الذهاب إلا بعد أن أشرف على المائة.
أما أنا فإنني في أوقات كثيرة كم اخترتُ أن أجلس لأتذكركم، وأحزن أشد الحزن لانسحابكم عن دنياي بدون استئذان،وإن منكم من اختار أن يذهب عن سبق إصرار، لرفضه أن يظل بيننا أسيرَ فراشِ مرَض، فكان أن حَظِيَ بالغطاء الذهبي الذي كان سترًا على ما كان يعاني من عجز وعيوب شيخوخة وهرم.
ورغم أنكم تعرفون أننا لا ننسى إلا اضطرارًا، فإننا نعرف أن آلام النهاية في بعض الحالات تكون فوق طاقتنا ، حين لا نستطيع حماية من نحب من قوى غيبٍ تختطفهم ، وحين لا نقدر على توفير أي نوع من أنواع الدفاع عنهم ، فنقف موقف من لا ستطيع شيئًا مثل وقفتنا أمام من تتخطفهم منا أيادي بشر معروفين، فلا نقدر على استنقاذهم. فيمضون بهم، ولا يبقى لنا إلا حساب أيام تغييبهم القسري حتى يعودون.
فإذا لم يعودوا غطتهم أستار النسيان كما ستوارينا جميعًا سدولُ الموت الخؤون.
فسامحونا يا أحبابنا ، فإنا آتون إليكم حيث أنتم عن قريب أو بعد زمان قد لا يطول.
ظل يهذي وصور من ازدحموا أمام فراشه من أصدقاء أمس، ممن دفنهم على فترات وعقود، كانت تتكاثر ليضيق بها فضاء حجرة نومه التي لم تكن تزيد على ثلاثة أمتار مربعة، وقد خشي أن يصل به الأمر الى أن يعلو صوته ،إذا اشتد هذيانه أو ارتفعت درجة ما يعانيه من الحمى. بينا كانت زوجته تسارع لإعداد منشفة تبردها وتضعها على جبهته التي اهتدت الى ادراك ما أصابه وهو في أعماق حلمه يحاول التخلص ممن اعتقد أنهم أصدقاؤه الذين كانوا قد حضروا ليلة زفت إليه هذه التي مازال على حبها الى اليوم ، وكذلك يرجو أن يظل الى يوم يبعثون.

14 / 08 / 2023


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 18/08/2023