الفيلسوف وعَالَم الكتابة

  الفَيْلسوفُ هُوَ الكائنُ الوحيدُ الذي يَكونُ عُمُرُه حَيَوَاتٍ متكررة مُنبثقة مِن أحزانه المتكررة، وهُوَ ضَميرُ الثورةِ الحيُّ، إنَّه صَرخةُ العَالَمِ الرافضِ للتدجين. مِهْنته هِيَ صَعقُ الناس لتحريرهم مِن أنفسهم ، وانتشالهم من النظام الاستهلاكي الخانق، والأخذ بأيديهم إلى حقيقة المعنى، وإرْشادهم إلى الضَّوْءِ في نهاية النَّفق، وإنقاذهم من الخوف لكي يَنطلقوا إلى الأمام. وأفضلُ طريقةٍ للتخلص من الخوف هِيَ اقتحامُه . ارْمِ نَفْسَكَ في قلبِ الخوف لكي تُفجِّرَ الخوفَ مِن دَاخله، وتَشعرَ بالأمان الروحيِّ والهدوءِ الماديِّ . والفَلْسَفةُ تُزيلُ الاكتئابَ، وتُشعِرُ الإنسانَ بِجَدوى الحياةِ، وأهميةِ العقلِ الإنسانِيِّ في حَركةِ التاريخِ ومَسارِ الوُجودِ. والفلسفةُ هِيَ فَنُّ التَّنقيبِ عن الذات وتطهيرُها.والوسيلةُ الوَحيدةُ لِتَخليدِ الفلسفةِ هِيَ بِنَاؤُها على رَمزيةِ اللغةِ والمشاعرِ الإنسانيةِ. وَسِوَى ذلك سَوْفَ تَزولُ الفَلسفةُ . والفلسفةُ هِيَ ضَوْءُ الشمعة، وخارطةُ الضوءِ، وخُطةٌ واقعية لكي يُصبح الذَّكرُ رَجُلًا ، وتصبح الأنثى امرأةً ، ويُصبح الشخصُ إنسانًا. والفَيْلسوفُ يَحرقُ الشوائبَ في الرُّوح الإنسانية لكي يَمنح الخلاصَ والطهارةَ للإنسان. إنَّ إزالةَ الشوائب من الرُّوح الإنسانية تَجْعل الرُّوحَ طاهرةً ومُطهِّرةً للأنساق الاجتماعية . ولا يَخفى أن إزالةَ الشوائب من الذَّهبِ تَرتقي بالذَّهبِ إلى درجةٍ أعلى. ولا مَكان للبريقِ في ظِلِّ وُجودِ الشَّوائب. وعُمُرُ الفَيْلسوفِ حَيَوَاتٌ متكررة لأنه يَعيش في أماكن كثيرة دون أن يُغادِر مكانه، ويُولَد في أزمنة كثيرة مع أنَّ تاريخَ ميلاده – في شهادة الميلاد الرَّسمية-  واحدٌ لا يتكرر. وهذه الحَيَوَاتُ الحارقةُ المحترِقةُ تَنبعث من أحزانه، لأنه موجودٌ في مجتمعٍ لا يعرف قيمةَ الفلسفة. إنَّه يموت في كُل لحظة لأنَّه يَدْفع ضريبة التاريخ مِن جِلْده، ويُسدِّد دُيونَ الحضارةِ من أعصابه. حياةُ الفَيلسوفِ نزيفٌ مُتواصل بلا انقطاع .

     الكتابةُ تَعبيرٌ عن الأنا الأُخرى الكامنةِ فِينا، وعمليةُ تطهُّرٍ مستمرةٌ. والأشخاصُ يُمارِسون فِعلَ الكتابة مُنطَلِقين مِن حُب عنيف أو حُزن عنيف. وهاتان الطاقتان (الحب / الحزن) أكبرُ من قُدرة الإنسان على التَّحمل، فيتمُّ اللجوء إلى الكتابةِ للتخلص من هذا الحِمْل الزائد، وهذا الضغطِ الهستيري، مِمَّا يُؤدي إلى تحقيقِ التوازن في النَّفْسِ البشريةِ . إنَّنا في سَفينةٍ مُهترئةٍ في قلب البحرِ الثائر، ويَنبغي التخلصُ من الأحمال الزائدة لكي تَستعيدَ السفينةُ توازنَها، ويَستعيدَ البحَّارةُ ثِقتهم بأنفسهم، ويَصلوا إلى شاطئِ الأمان . ورَغْمَ كُلِّ شيء ، سَيَظلُّ الكاتبُ الحقيقيُّ هُوَ الذي يَعتبر الكتابةَ موقفًا من الوجود بِأسْره، لا لحظةَ حُب زائلة، أو شعورًا حزينًا عابرًا. إنَّ الكتابةَ هِيَ فَلسفةُ الوجودِ الواقعيِّ والخيالِيِّ ، ولَيْسَتْ هِوَايةً لِمَلْءِ وَقْتِ الفَراغ، أو وَجاهةً اجتماعية . وأبجديةُ الحُلْمِ في الكتابةِ هِيَ العذابُ المتواصلُ الذي يَهْدِفُ إلى تَخليصِ المجتمعِ مِنَ العذابِ، وتَحريرِ الأنساقِ الحياتية مِنَ الفَوضى، وترسيخِ المعاني الثَّورية في أقصى المشاعرِ الإنسانية.

 

* كاتب من الأردن


الكاتب : إبراهيم أبو عواد *

  

بتاريخ : 19/08/2023