«مجتمع اللاَّتلامُسَ: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل

إهداء
إلى مايا، صولال، ونوح :
أَبدًا، لاتَنْسُوا أَنْ تَظَلُّوا
بأعْيُنٍ مُتَطَلِّعةٍ، و أيَادٍ مَمْدُودَةٍ.

مقدمة
لَوْ كانَ بحوزةِ راكِبِي “تَيْتَانِيك” “هواتفُ ذكيةٌ / SMARTPHONES”، كَمْ كانَ سَيَبْلُغ عَدَدُ الَّذين سينْساقُونَ وراءَ إغْرَاءِ الْتِقاطِ سيلفيّ، رُفْقَةَ الأوركستر البُطوليّ، الَّذي ظلَّ يُواصلُ العزفَ حتَّى لحظةِ الغَرَقِ؟

ما الَّذي يَدْفَعُ شخصًا مَا إلى المُجازفَةِ بِنَفْسِهِ، مِنْ أَجْلِ صورةٍ مَشْهديَّةٍ؟ أَهُوَ تحصيلُ “اللَّايكات/LIKES”، أَوِ الحاجةُ إلى اعترافِ الآخرينَ به، أوِ الرَّغْبَةُ في التَفَرُّدِ داخلَ فضاءٍ افتراضيٍّ، حتَّى لو كانَ الثَّمن هو الموت؟ هذه الوضعيَّةُ بعيدةٌ تماماَ، عن أن تكونَ معزولةً أو نادِرَةً، فمُمَارَسَةُ السيلفيّْ قَدْ تَكُونُ سبباً في وضعِ حدٍّ لحياةِ العديدِ مِنَ الأَشخاصِ في العالم، أكثر مِمَّا تَتَسبَّبُ في ذلك هجماتُ أسماكِ القِرْشِ!
مِنْ أَعْلَى هضبةٍ في الهِندِ، إلى حريقٍ غابَويٍّ باليونان، مروراً بإِعْصارٍ في الولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيَّة، يُمْكِنُ لهذه النَّقْرَةِ الأَخيرةِ، على الهاتفِ المحمولِ، أن تكونَ مُمِيتَة.
خارجَ وَضْعِيَّاتٍ بئيسةٍ كهذه، غَيَّرتْ مَوَاقِعُ التَّواصُلِ الاجتماعيّ حُدُودَ الحميميِّ.
فنحنُ نتفحَّصُ عبر النِّتْ، حياةَ الآخرينَ، فيما نَعْرِضُ مُبْتَهِجينَ، حياتَنا الخاصَّةَ. ثُمَّ ألاَ يَدُلُّ انفِرادُنَا المُسْتَمِرّ بهواتِفِنَا المحمولةِ، الَّتي نَعْهَدُ إليها بِصُوَرِنَا ومشاعِرِنا وحَميميَّتِنَا، على موتِ حياتِنَا الخاصَّة؟ نَحْنُ الَّذينَ نُضَحِّي بأوقاتٍ مع النَّاس، أو بِرُفْقَةِ العائلة، أو بمأْدُبَةِ عَشاءٍ، أو بعُطْلةٍ، لِكَيْ نَنْغَمِسَ في شاشاتِ هواتِفِنَا المحمولة.
إنْ كُنْتَ تقرأُ هذه السُّطُور، على مَتْنِ مقْصورةِ قِطَارٍ، أوْ في حديقةٍ، أوْ دَاخِل صالةِ مقهىً، ارْفَعْ رَأْسكَ هُنَيْهَةً، وعُدَّ عَدَدَ الَّذينَ يتصفَّحونَ شاشاتِ هواتفِهِمُ المحمولةَ، وهُمْ يُتَابعونَ هذه الأليافَ الرَّقْمِيَّةِ المُضِيئَة، الَّتي تَأْسُرُنَا. وأَنْتَ نَفْسك أيُّها القارئُ، ألاَ يوجَدُ هاتِفُكَ المَحمولُ على بِضْعِ سنتيمتراتٍ مِنك، فيما أنتَ مُتَأَهِّبٌ لِلُّهَاثِ وراءَ “لايْكاتٍ” غَنِيَّةٍ بِلَذَّةٍ “مُخَدِّرَةٍ/ DOPAMINE*”، ذلك أنَّ “لِللّاَيكاتِ” مَفْعُولُهَا على الدِّماغِ، كَمَا لَوْ كانتْ مكافآتٍ اجتماعيّةٍ حقيقيّة.
يُغْنِي هذا الإدمانُ، مِنْ جهةٍ أُخْرَى، الأرضِيَّةَ الكبرى للمعطياتِ الخاصَّةِ بالمِنَصَّاتِ، والَّتي غَداً، قَدْ تَسْتَهْدِفُنَا أكثَرَ، فإذا كُنَّا نَنْظُرُ إلى كاميرا هاتِفِنَا “الذَّكيّ”، عَلَيْنَا ألاَّ نَنْسَى أنَّهَا، أيضاً بِدَوْرِهَا، تَنْظُرُ إِليْنَا، ورُبَّمَا تَتَجَسَّسُ علينا.
مَأْخُوذُونَ بالوعُودِ الجميلةِ للثَّورةِ الرَّقْمِيَّةِ، نَقْبَلُ كلَّ يَوْمٍ، أكثرَ فأكثرَ، عالَمًا رَسَمَتْهُ “الڭافام/ (G)oogle, (A)pple, (F)acebook, (A)mazone, (M)icrosoft, “ عالمٌ يَحْكُمُهُ من جهةٍ أُولَى، “الأَخُ الأكْبَر/Big Brother”، كَمَا تَخَيَّلَهُ الرِوائيّ”Georges orwell”*، وتَحْكُمُهُ، من جهةٍ ثَانية، “الأُمُّ الكُبْرَى/Big Mother”، كمفهومٍ قَدَّمَهُ الكاتب “آلان دامازيو/Alain Damasio “*.
الأَخُ الأكبرُ، لِأَنَّنَا، أحياناً، نُذْعِنُ لِمُجْتَمَعِ المُرَاقبة، مُسْتَأْمِنِينَ هواتِفَنَا “الذَّكيَّةَ” مُعْطياتنَا الشَّخْصِيَّةَ، هواتِفُنَا الَّتي لَيْسَتْ سِوى جواسيسَ جَيْبٍ، والَّتي قَدْ يَحْدُثُ أَنْ تُسْرَقَ مِنَّا، أحياناً، كَمَا أَلْمَحَ إلى ذلك “إدوارد سناودن/Edward Snowden” في مَعْرِضِ فَضْحِهِ لِأَكْبَرِ عمليَّةِ تَجَسُّسٍ خَضَعَ لها المواطنون الأمريكيُّون.
أَمَّا “الأُمُّ الكُبْرى/Big Mother “؛ فَهِيَ هذا الشَّكْلُ المُطَمْئِنُ الَّذي يُبْقِينَا دَاخِلَ «شَرْنَقَةٍ-تِقْنيّةٍ ِللْأَليافِ البَصَرِيَّةِ»، هذه الأُمُّ الَّتي تَدُلُّ خُطَانَا بفضلِ «غوغل ماپ»، تُصَاحِبُنَا عَبْرَ «أوبير/Uber”، وتُغَذِّينَا، مِنْ خِلَالِ “Deliveroo”، أَوْ أَيضاً، تُقَدِّمُ لنا،عَبْرَ “تاندر/Tinder”، شريكاً جِنْسِيّاً مُناسِباً. تَهْتَمُّ الأُمُّ الكُبْرَى بِكُلِّ شيءٍ؛ بِاستِثْنَاءِ رُبَّما العُمَّال العَرَضِيِّينَ لَدَيْهَا.
لذلك لاغرابةَ في أَنْ تَحْشُرَ التِّكنولوجيَّاتِ الجديدةَ نَفْسَهَا في كُلِّ تَفْصيلٍ مِنْ تفاصيلِ المُجْتَمَعِ، بدْءاً مِنَ العملِ عن بُعْد، وُصولاً إلى حُبٍّ مُصَفَّىً باللُّوغاريتمات، ومُروراً بالموتِ الَّذي يَجْهَدُ لِتعطيلِهِ مُنَظّرُو الإنسانيَّةِ الفائقة، في “وادي السيليكون/Silicon valley”.
في الوقتِ الَّذي بَاتَتْ فيه مُعْضِلَةُ المناخ، على قَدْرٍ كبيرٍ من الاستعجاليَّة، لَمْ يُبْدِ عمالقةُ “الڭافام” غيرَ انشغالٍ ضئيلٍ بالمسألةِ، مُواصِلِينَ، بذلك، تدميرَ الكوكبِ عَبْرَ التَّلَوُّثِ الرَّقْميِّ. لوْ كانَ الانترنت بلداً، لكانَ أكبرَ ثالثِ مُسْتَهْلِكٍ للكهرباءِ، وراءَ كلٍّ مِنَ الصِّينِ، والولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيَّة. ولِلتَخلُّصِ من هذه الوضعيَّةِ المأْساويَّةِ، تَعَهَّدَ مُهَنْدِسُو وادي السيليكون لِلأَكْثَرِ ثَراءً، بتقديمِ أراضٍ وجنَّاتِ عَدَنٍ، كفضاءاتٍ تَعْويضِيَّةٍ داخلَ مناطقَ حَضَرِيَّةٍ، محْجوزةٍ سَلَفاً، ومُسْتَنْبَتَة (لِم لاَ) داخِلَ المحيطات، مع انْبِثاقِ مُدُنٍ عائمةٍ، أوْ (غداً أيضاً، لِم لاَ) على كوكبِ المَرِّيخ.
إنَّهُم مُنْقَادُونَ لفلسفةٍ فَوْضَوِيَّةٍ مُنْفَلِتَةٍ (ليبيرتارية)*، تَرُومَ تَقْويضَ الدَّولةِ المَهيبَةِ، من أَجْلِ ابتكارِ نماذجَ مُجْتَمَعِيَّةٍٓ أُخْرَى، حَيْثُ الفَرْدَانِيَةُ هي السَيِّدُ دُونَ منازعٍ. فماذا إذَنْ، عن نِظَامِنا الدِّيمُقْرَاطِيّ داخلَ هذا العالمِ الجديد؟
أُحاولُ هُنَا، أنْ أَتَرَسَّمَ مَحَاوِرَ مجتَمَعِ «اللاَّتلامُسَ». مُجْتَمَعٌ، شَرَع َالنَّاسُ، داخِلَهُ، في النُّزوعِ إلى تَقْلِيصِ فُسْحَةِ النَّظَرِ إلى بَعْضِهِمُ البَعْضَ، وملامسَةِ ومُعانَقَةِ الواحدِ مِنْهُمُ الآخرَ. مُجْتَمَعٌ يُسْتَتَبَعُ فيه الاتِّصالُ الدَّائِمُ، على نَحْوٍ مُفَارِقٍ ! إحساساً بالعُزْلَةِ، حَيْثُ تُسْتَبْدَلُ العلاقةُ الفيزيقيَّةُ والجَسَدِيَّةُ بِسَرَابِ الاِفتراضيِّ. وحتَّى نَسْتَعِيدَ الصِّيغَةَ التَّعْبيريَّةَ للجامعِيَّةِ الأمريكيَّة، “شيري تيركل/Sherry turkle”، فَنَحْنُ، في مجتمعِ “اللاَّتلامُس”، “وَحِيدُونَ دَاخِلَ الحُشُودِ”.
اسْتنتاجٌ كَهذا، أَعَادَتْهُ، وبِفَدَاحَةٍ، إلى الواجهةِ جائحةُ كوفيد 19، فهذه الأَزمةُ الصِّحِيَّةُ، رَسَّخَتِ التَّباعُدَ الجَسدِيَّ والاجتماعيّ، بِوصْفِهِما مِعياراً جديداً، وإِنْ كان أَخَذَ، مِنْ قَبْلُ،طريقَهُ إلى التَّغَلْغُلِ داخلَ المجتمع. هذا الكتاب؛ على الرَّغْمِ مِنْ ذلك، ليس بياناً احتجاجيّاً يُشَرِّعُ
لِ”التِّكنو-فوبيا”، ففوائدُ التِّكنولوجيَّاتِ الجديدةِ، في مَعيشِنا اليوْميّ، لَمْ تَعُدْ مَوْضِعَ نِقاشٍ.
لكنَّ، التِّقْنِيَة مع ذلك، “ خادمٌ مُفِيدٌ، غَيْرَ أَنَّهَا أيضاً، سَيِّدٌ خطيرٌ”، كَمَا كان قال بذلك، عِنْدَ أواخرِ القرنِ التَّاسِعِ عَشَرْ، المؤَرِّخُ النَّرْويجِيّ “ كريستيان لوس لونج/Christian lous longe”.
يَسْعَى هذا العَمَل إلى مباشرةِ رجَّةٍ صِحِّيَّةٍ، مُسْتَخْلِصًا الدُّروسَ والعِبَر مِنْ حِكَايَةِ “الضِّفدع”، فهلْ تَعْرِفونَ الحِكَايَة؟ لوْ قَذَفْنَا، فَجْأَةً، بهذا الحيوانِ البرْمائيّ داخلَ ماءٍ مُغَلَّىٕ، فَإنَّهُ سَيَقْفِزُ لِيَنْفَذَ بِجِلْدِهِ، لَكِنْ، إِنْ نَحْنُ وَضَعْنَاهُ في الماءِ الباردِ، وشَرَعْنَا تَدْرِيجِيّاً، في الرَّفْعِ من درجةِ الحرارة، فَسَيَسْتَسْلِمُ دُونَ أَدْنَى اعتراضٍ. وَأَنْتُمْ – مُخَدَّرُونَ داخلَ الميَّاهِ العميقةِ المُغَلَّاةِ للتِّكنولوجيَاتِ الجَديدةِ، هَلْ تَسْتَشْعِرُونَ الحرارةَ الآخِذَةُ في الارتفاعِ؟


الكاتب : ترجمة : محمد الشنقيطي / عبد الإله الهادفي

  

بتاريخ : 28/08/2023