«وديعة خفاف» الكتاب النثري الجديد لمبارك وساط : استعادة لذكرى مستودعة !

 

كتاب»وديعة خفاف» شاعريٌّ؛ مادتُه الشعر، لغة، أفكارا ووشائج، وهو امتداد لأرخبيلات مبارك وساط، وشيءٌ من مواصلته تتبع الشعر في تخومه المفتوحة. فلم يعد ثمة معنى لزجر تخطي حواجز الأنواع. لأن الشعر يتأسس حيث نمنح له فسحة للانطلاق. وينساب قويا والشاعر يكتب نثرا. ولعل كتاب»وديعة خفاف» هو في الواقع رزنامة أوراق فارس، هذا الذي عاد ليَرِد من نبع الماضي في أقداح الذكريات؛ فالشاعر لا يسرد لنا أحداثا، بقدر ما يجرب ماكينة الذاكرة، ويطّلع في ذهول على خوارقها الكثيرة.
«الذكريات ريح، تختلق الغيوم» أو تخترعها، هي التعزيمة الفاصلة بشأن كتاب وساط. لأن هذا الاقتباس، تحديدا، من سوبرفيال، له، في اعتقادي، أهميته في فهم انبثاق هذا العمل الأدبي وصياغته. لأن الذكريات مادة تتنامى، وكأنها ريح تختلق غيوما؛ بقدر ما تتناسل عناصر جديدة من الغيوم التي تدفعها الريح، فللريح أوطار شتَّى في الأمر، وإن اقتضى الحال أن تختلقها من عَدَمٍ وتخترعها. الذكريات هنا أوراق فارس، التي تدفعها ريح الكتابة.
ذكرُ نص بيوغرافي يُكتب في الكتاب تلك الأثناء هو: ما»[…] أجج ذكريات من تلك الأيام، قابعة في أعماق ذاكرة فارس « ؛ فهو يتناول مرحلة حياتية مشتركة بين باقي زملائه؛ وما أدراك ما مرحلة التكوين !
وقد رُوعيت في يوميات فارس ضوابط الدقة الزمنية؛ في تبيان الوقائع التي طرأت خلال فرشة محددة تقويما، وحصرا للأمكنة. ما يضفي على شعرية النص، مصداقية السياق وصدق الإحساس. فجُعلت القراءةُ تتأرجح، بالتالي، بين ضرورتين أساسيتين هما إرادة تثبيت جمال فني معين، وحرص ظاهر على نية تأريخ وحفظ خاص لذاكرةٍ لها مسوغاتها.
في نص مبارك وساط حشد هائل من الشخصيات الثانوية والتي تتقاطع معها مصائر الشخصيات الأساسية. ولعل شخصية وديعة هي عنصره المركزي. إن لم نقل الوجه الذي أضاءت ذكراه ببهائها ذاكرة فارس»وإن تكن ذكرى وديعة مستودعة بشكل راسخ في أعماق نفسه « . يشد عصبٌ واحدٌ حكاية مبارك وساط التي تتوزعها بؤر كثيرة ومتشعبة؛ إنه الاستعادة، بما فيه استعادة وديعة خفاف؛ يتساءل فارس: »كيف يحدث أنِّي أرى وجه وديعة بوضوح في هذا الصباح بالضبط؟ « . ولأن زمن الكتابة هنا لا يعني بالضرورة زمن النص، فإن التحديد الزمني المثبت في فصول الكتاب ليس، في ظني، كتابةً ليومياتٍ في حينها. بقدر ما نتخيل استعادة لاستعادة، أو، بالأحرى، تذكر لذكرى مستودعة. لا تتجاوز المدة الزمنية التي تغطيها أسبوعا كاملا. تطرق فيها الكاتب وسارده والشخصيات الأخرى المتناوبة على السرد لهموم جيل بأكمله. بالعودة إلى سنوات السبعينيات وحلم التغيير المجهض، والذي رَاوَد مناضلي تلك الفترة من التاريخ السياسي للمغرب.
تتخلل مشاغل فارس، غرامياته وانتكاساته، كلفه بالكتب وعشقه للسينما، تقاطعات الزيارات إلى البادية، والميول اليسارية لرفقائه، والتي نهل من منابعها هو أيضا، دون أن يعتنقها اعتناقا.
كل هذا في أسلوب رصين، ولغة منتقاة انتقاء جيدا، يبتعد فيه وساط عن الخطأ الشائع الذي صار شيوعه أوسع في أيامنا، دون أن ينسى أن يطعم كتابته، وهو العارف بالشيء، بمفردات دخلت القاموس من بابه الواسع مثرية إياه، ولم تسئ إليه. كما أن وديعة خفاف نص مشوق بلا منازع، من الكلمة الرائقة إلى العبارة الرفيعة، في نسج من الدعابة والإشارات المستملحات، إلى الاسترسال الشعري، وصفا وتفاصيل لا يتيحها كثيرا تكثيف القصيدة.كتب وساط: »يهتز شعر وديعة قليلا من أمام، فثمة هبة برد، وتتدلى منه خُصلتان على طرفي جبينها (…) إنها تتقدم بخطو واثق. يتحرك كتفاها فيهتز نهداها بشكل طفيف، وينعشني اهتزازهما ويرعشني، وقد لا يلاحظه غيري، ولكنني أنا ألاحظه. ترتاح نظرتي على وجهها الأليف الذي يخامر بياضه الآن لون نبيذيٌّ. «
لا يمكن إلا أن تحفزنا المقاطع المقتبسة على قراءة الكتاب، ولا تكفي هذه العجالة من الإحاطة بقضاياه كلها، وبتقاطع السردي والسيرة في متنه. فكم من كؤوس ملئت فيه وأفرغت كما كتب وساط:»وملئت كؤوس وأُفرغت. وحلت السكينة في الأذهان « .
طرافة الموقف السالف وحال أهله تفضي بنا إلى ذكر الدعابة والسخرية وهما من مزايا كتابة مبارك وساط في الشعر والنثر على حد سواء، ويلجأ إليهما كثيرا، لشغفه بالنادرة والطرفة والملحة، وبالغريب والعجيب والسريالي. من الخندريس إلى توعد الذي شرب بصوف زوجته أن يشرب بخروف، إلى صورة وجه سيمون دي بوفوار الذي يعاتب فارسا في صفحة نعيها آنذاك بجريدة، إلى فارس الذي يشبه وساط، ذي النبوءة المبكرة: »خيالك واسع يا فارس. ستكون شاعرا ولا شك !  «، والذي لا يأنف يعيش اللحظة الشعرية و»قميصه الأخضر مرصع بالنجوم. «
بين فارس ووساط قواسم مشتركة، وشبه كبير، بينما يكتب الأول رجل يبتسم للعصافير يكتب الثاني ما يلي:»دلفت إلى محل لبيع الثياب واشتريت قبعة. قبعة بيضاء يحيط بطرفها السفلي خط دائري رماّني اللون. رأيتها معروضة بالفترينة وأعجبتني. قد لا تكون أعجبتني كثيرا، ولكني رغبت في شرائها، وها هي الآن فوق رأسي. «
»وديعة خفاف « محفوفة بتفاصيل مشابهة، تحتاج إلى تأمل وإعمال عقل، كما تحتاج ذائقة شعرية ومرحا أدبيا، من شيم أهله، سعة صدرهم بالنوادر والألعاب السريالية؛ بدءا بالعنوان ومرورا بتقنيات السرد والاسترجاع وأصوات النص الأخرى. إن هذا النص يزدحم بالكثير من الوعود، وتكتنفه أصوات مكتومة، وأشياء كُظمت وسطور محذوفة، ومركونة خلف سطور مكتوبة؛ لذا نقتفي في تعقبها خيطا فارا إلى ما لا نهاية، في نشوة ومرح عاليين قلما يمنحهما أدب معاصر، فنقرأ مستكشفين، ونتطلع بفضول، متشوقين إلى وجه وضاح لا يبين. يستغرق فارس هو في حلمه بوديعة، ونحن نظل شاردين.  »ويخرج فارس من حلمه الذي ركض فيه طويلا. « في أسى. وتتأسس، في الأخير، دعائم الذاكرة الغنية بودائعها.


الكاتب : عبد الله كرمون

  

بتاريخ : 28/08/2023