لم ينضب بعد معين المفكر والمثقف الموسوعي ريجيس دوبريه، رفيق تشي غيفارا في مغامراته الجنوب أميركية، ومطلق الميديولوجيا، أو علم الوسائط، والعضو لأربع سنوات في «أكاديمية غونكور»، والناقد للرأسمالية ومجتمع الاستهلاك والصورة، والواضع مؤلفات ربطت بشكل لافت بين مجالات دراسية متباعدة كالفلسفة والدين والسياسة والفن والرواية والتقسيم الاجتماعي للعمل وتحليل تأثير وسائل الإعلام والاتصال على المجتمعات والعصر، ومنها «سلطة المثقفين في فرنسا»، و»الثورة في الثورة»، و»نقد العقل السياسي»، و»دروس في الميديولوجيا العامة»، و»حياة وموت الصورة»، و»النار المقدسة»، و»خطأ في الحساب»، و»القرن الأخضر»، وغيرها من الكتب. وها هو يضرب من جديد موعداً لقرائه مع كتابه الأخير المعنون «حيث أعمدة حية» الصادر في باريس عن دار «غاليمار».
الكتاب يشبه إلى حد بعيد الاعترافات أو المختارات، بل هو عبارة عن نزهة في مؤلفات أو نصوص الآخرين الذين تأثر بهم المفكر الفرنسي في حياته التي ارتبطت بكثير من الأحداث والثورات، وجالت بين قرنين من الزمن، هما النصف الثاني من القرن العشرين والربع الأول من القرن الواحد والعشرين. وبهذا الكتاب يفتتح دوبريه المولود عام 1940 مجموعة كتب جديدة تصدرها الدار العريقة، تتناول الكتاب الذين أثرت نصوصهم ورواياتهم وأشعارهم في المسار الأدبي والفكري لعدد كبير من المؤلفين.
وعنوان الكتاب المستل من ديوان «أزهار الشر» لشارل بودلير، وتحديداً من مطلع قصيدة «تجاوبات»، «الطبيعة معبد فيه أعمدة حية، تصدر أحياناً كلمات مبهمة، هناك يمضي الإنسان عبر غابات من رموز، ترقبه بنظرات وادعة…»، هو للتعبير عن أن بعض الأدباء المعاصرين شكلوا المرجعية الثقافية التي استقى منها ريجيس دوبريه مكوناته الفكرية وأثروا في نتاجه الأدبي، بما تضمنه من أفكار ودلالات ظاهرة أو مضمرة، فكانوا بمعنى ما الركائز أو الأركان التي بنى عليها تجربته الكتابية والفكرية والسياسية.
وأعمدة دوبريه الحية هم الفلاسفة والأدباء والشعراء موريس جنوفوا ولويس أراغون ومارغريت يورسنار وجان – بول سارتر وجوليان غراك وجان جيونو وسان جون بيرس والمؤرخ المقاوم دانيال كورديه، وغيرهم.