نعيمة سميح ..الجرح وقد غنى فسال

يكفي الفنانة المغربية الأصيلة نعيمة سميح فخرا،  أنها  صاحبة أغنية «ياك أجرحي «،فلو لم تغن  غيرها، لظلت  تزاحم الأصوات النسائية والرجالية  على حد سواء،أكان ذلك  في المغرب أو في الوطن العربي.
نعيمة سميح، صاحبة البحة والصوت الجريح، لايمكن للمرء وهو يستمع إلى أغانيها المتعددة والمتنوعة  طيلة عقود من الزمن، التي تعاملت فيها مع كبار الملحنين والشعراء،  ألا يستمتع بهذا الصوت الطروب ، حيث يستسلم طواعية لهذا  الإحساس  المتدفق، مثل ماء نهر أبي رقراق  الذي تغنى به ذات أغنية جميلة»أشواق «المرحوم محمد الحياني ممهورة بتوقيع  الشاعر الكبير  عبد الرفيع الجواهري، فتتسلل النشوة إلى الجسد قبل الوجدان، وكأنك حقا  أمام ساحر  يلقي عليك طلاسيمه، ويتلاعب  بإرادتك، بعدها تستسلم لتنويمه المغناطيسي.
نعيمة سميح، رغم علو موهبتها، لم يستهوها سحر الشرق، ظلت دوما تنتمي إلى صلصال وطنها، لواختارت الهجرة إلى مصر، حيث عمالقة الفن والموسيقى هناك، فالأكيد أنهم سيتهافتون على موهبتها، كيف لا، وهناك من الأصوات  القادمة من جل الأقطار العربية، من وجدت لها مكانا هناك، رغم تواضع موهبتها أمام  هذه القامة المغربية.
بتجربتها الطويلة السامقة، غنت نعيمة سميح، وتغنت بالفرح، بالحزن بالأوجاع، بالمسرات وبالحياة أيضا.
إنها سيدة الأغنية والإحساس بدون منازع، للمرء الحق بل كل الحق، أن يجهر بهذه الحقيقة دون أي خجل، يكفي أن أعمالها الفنية، تحرص فيها على أن  يعانق اللحن الجميل، الكلمات  الشفيفة والعميقة  ،والإيقاع الأصيل بعيدا عن  الهجانة، كل ذلك يضفي الصوت العذب عليه   لمسة سحرية ،تجعل الأغنية خالدة، والدليل  هو أن أعمالها الفنية  مازالت حية حاضرة في الوجدان المغربي والمغاربي والعربي رغم أنها انقطعت عن الغناء منذ فترة غير وجيزة.
كان لي الشرف أن  أناقش  في العديد من المحطات واقع الأغنية العربية بشكل عام  مع كبار  الفنانين العرب  نساء ورجالا، لكن كنت دائما أجد نفسي منبهرا   جدا  عندما  يتحدث هؤلاء الفنانون الكبار، بتقدير  وإعجاب  كبيرين عن  عميدة الأغنية المغربية نعيمة سميح، التي   يكنون لها احتراما  منقطع النظير، ويحفظون عن ظهر قلب أغنيتها الخالدة «ياك أجرحي» ويرددونها بطلاقة وتلقائية، وكأنهم بذلك  يجيبون عن واقع وحال  أغنيتنا العربية  اليوم، بعدما حدث لها ما حدث  باسم  الانتشار والعالمية المفترى عليها،وهو جرح آخر له أسبابه ومسبباته.
مسار الفنانة والإنسانة نعيمة سميح، مسار مطرز بالنجاحات والقبول من طرف الجمهور المغربي والمغاربي وأيضا العربي، معادلة صعبة لايمكن حلها إلا ممن كان يتمتع بذكاء فني  وقلب ينبض محبة ويحترم المتلقي المفترض والمتعدد بتعدد خلفياته وفئاته.
هذه المعادلة، تجيب عنها نعيمة سميح ذات حوار بالتأكيد على أن مرد ذلك هو «الأحاسيس الصادقة التي تسكن شراييني وتتفاعل مع الأغنية التي أؤديها بصدق وانسجام إلى درجة الذوبان في الأداء ،وهذا ينعكس على حركاتي وتقاسيم وجهي حين أغني، إنها التلقائية التي تجرفني للانفعال مع أغنياتي».
رغم كل الأوسمة  المستحقة التي نالتها، يبقى أرقى وسام وشحت به، هو وسام التقدير والحب الجارف ،الذي كلل الجمهور صدرها به ،خاصة وأنها تعاملت مع مدارس متعددة ،لكن الفرق بينها وبين الآخر، أنها استطاعت أن تشكل من ذلك  مدرسة خاصة بها ،فقد تعاملت مع العديد من الملحنين الكبار، إذ نجد محمد بن عبدالسلام  في  «نوارة  «فتح الورد  «لله عليها قصارة «البحارة»، وفي «الخاتم» مع عبدالرحيم السقاط، «جريت وجاريت» رفقة عبدالقادر وهبي ومع محمود الإدريسي في أغنية «شكون اللي يعمر هاد الدار».
ومع عبد القادر الراشدي في «هذا حالي»  غاب عليا لهلال»  جاري «على غفلة» وفي «قطيب الخيزران» مع  عبد لله العصامي، و«أمري لله»رفقة أحمد العلوي و«رحلة النصر «مع عبدالوهاب الدكالي وغيرها من الأعمال الفنية الخالدة.
حتى وهي تغني بغير لسانها الدارج المغربي، نجد أنها تتقن اللهجة المستعملة، وتغني بإحساس كبير، إلى درجة أنها أدهشت الآخر، كما حدث مع الأغنية الخليجية «واقف على بابكم «التي تغنى بها العديد من الفنانين الكبار  من كل الأقطار، وحتى الجيل الجديد من الشباب الآن.
المطربة القديرة نعيمة سميح  صاحبة البحة الفطرية،نجحت ودخلت قلوب الناس بدون استئذان، لأنها تخلصت منذ دهشة البدايات، وهي تلج هذا العالم، من فخاخ التكبر والاستعلاء، الذي يصعب على الكثيرين التخلص منه،ببساطة لأنه مليء بالأضواء الحارقة، والذي لم يكتب لغيرها، وهم قليلون، أن ينجوا من  فكاكه.
نعيمة سميح، صوت آسر،  يغريك بالطرب  مهما كانت مقاومتك ومناعتك، فلن تغنيك ولن تمنعك أي منهما في شىء، من الإنصات بالقلب والجوارح قبل الأذن.
نعيمة سميح، صوت نادر وحنجرة من ذهب،  تلخصه باختصار الحروف المشكلة له، فالصاد ،صمود أمام  كل تفاهة وهجانة، والواو، وقار له وقع ونقر في المزاج والإحساس، والتاء، تخطيط للروح  والنفس وترجمة بكل ألوان قوس قزح  لمعنى الفن الراقي ولمعنى الحياة.
* هذه الشهادة نشرت ضمن كتاب جماعي أصدرته سفارة المملكة المغربية بتونس بمبادرة من السفير ذ حسن طارق بعنوان «نعيمة سميح أثرا تونسيا.. شهادات عن بحة الشجن الطروب».


الكاتب : جلال كندالي

  

بتاريخ : 28/08/2023