مروض «الحيوانات المتوهمة»، أنيس الرافعي: عمر الكتابة قليل، وعمر الفراغ سرمدي بلا خاتمة

ينقلنا القاص أنيس الرافعي في هذا الحوار مع وكالة المغرب العربي للأنباء، الى مخبأه الكتابي السري، لنكتشف خلطته السحرية في الكتابة، هو المؤمن بأن على الكاتب أن يقدم دفتر تحملات جمالي في كل تجربة كتابية للانفكاك من شرك التصنيف والصنمية الكتابية التي لا تتجاوز نمطيتها، ولا تحاول التحرر من قبضة المعيار والشكل التقليدي.
اتسمت تجربة الرافعي القصصية بكونها تجربة ميسمها الاختراق والاختلاق والمغايرة، والرغبة في التجديد لتقديم قصة في سياقات أخرى لم نتعود عليها في قراءاتنا لأن ما يميز نصوصه هو ذلك التجاوز، وتلك الجرأة المؤسسة على تراكم معرفي ووعي بالأفق الذي تشتغل عليه التجربة والتي جعلت الرافعي في كل نص جديد يختبر هشاشة الكتابة وقدرتها على الاستمرار في هذه الهشاشة التي تمنح المبدع إمكانية التجديد والتخطي.

 p  وُصِف فوزك بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية في دورة هذه السنة، عن كتابك القصصي «سيرك الحيوانات المتوهمة»، بكونه اعترافا مستحقا، نظير  اعتكافك الطويل على كتابة فن القصة القصيرة، كيف ترى تتويجك بهذه الجائزة، وما القيمة التي يمكن أن تقدمها لإشعاع الجنس القصصي المغربي؟

n بكل تأكيد، سعدت بالفوز، لكني لم أحس أنني انتصرت على أحد في الحقيقة ، اغتبطت بأن مشروعي الكتابي، وكدحي السردي، لاقيا حظوة واعتبارا لدى محكمين مرموقين في السردية العربية، وتم الالتفات ؛ أخيرا ؛ إلى الجماليات والإضافات و الطروس التي سعيت ؛ بكل تواضع؛ لإغناء الفن القصصي بها . ومن دون شك ، سيمكن هذا الفوز الرمزي، من تسليط الضوء على مدونة القصة المغربية التي قدمت العديد من الأسماء والتجارب المرموقة التي تعلمت منها الكثير فما زلت قيد التعلم ، و حرفة القاص شاقة تتطلب الحذق و المكابدة المستمرين.

p ما هي التقنيات الأسلوبية التي طبقتها في كتابك القصصي «سيرك الحيوانات المتوهمة» ؟ ومن هو القارئ الذي توجه له الدعوة لزيارة هذا السيرك، الذي سيعرف بلا ريب انتشارا أوسع مع الترجمة المرتقبة إلى عدة لغات ؟

n هذا الكتاب القصصي ، هو بمثابة محاكاة مضادة لكتاب « كليلة ودمنة « . رؤية معاصرة لهذا المؤلف التراثي البديع ، لكن انطلاقا من قراءة مختلفة لموضوعة تخييل الحيوان، مع ادخال استعارة «السيرك» للتعبير عن واقع الحال الراهن اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.. ومن هنا ، فالقارئ المدعو لاستقبال مؤلف من هذا القبيل ، هو القارىء النموذجي القادر على تفكيك الأسطوريات الخبيئة ، التي بنيت عليها لاوعي النص الجامع . لماذا تتقمص الحيوانات أرواح البشر؟ ما سبب احتراق السيرك في خاتمة المطاف ؟ لماذا يظهر تجار الرماد بعد الحريق الكبير للسيرك ؟ هل الهامش أهم من المتن في هذا الكتاب القصصي ؟  لماذا انتقاء ثلاثين حيوانا بالضبط، وهل لهذا العدد دلالة خاصة أومغزى معين ؟…

p هناك اتهام وجه للجوائز الأدبية بأنها ساهمت في انحسار الجنس القصصي ، في مقابل الحضور الطاغي للرواية، هل هو اتهام صائب وفق رأيك، أم أنه انحسار سببه كُتّاب القصة أنفسهم ؟

n لا أظن هذا، وجوائز الرواية، حتى وإن كانت مهيمنة، ومغرية، وذات نزعة استحواذية، فإنها؛ في تقديري الشخصي؛ لم تؤد إلى شحوب و تراجع الفن القصصي . ثمة تقصير من لدن القصاصين أنفسهم في الإيمان بعقيدتهم الأدبية،  وكذا في توفير الشروط الضرورية والموضوعية لزرع أو استنبات مؤسسة القصة في تربة الثقافة العربية، وتوفير قابليات الجذب لدى الناشرين، أو الفاعلين الثقافيين، أو الممولين. نحتاج في الحقيقة إلى مؤتمر عربي كبير لمناقشة هذا السؤال الإشكالي الحارق الذي يهم مستقبل الفن القصصي، ومآلاته القادمة.

p بات حضور المغرب في الجوائز الأدبية بارزا خلال السنوات الأخيرة، هل يمكن القول إنه  ترسيخ لحضور التجربة الأدبية المغربية والمغاربية ضمن خارطة الأدب العربي؟

n حسب ظني أن التجربة الإبداعية المغربية والمغاربية تستحق هاته المكانة بامتياز، حتى وإن تأخرت قليلا، بسبب عماء الذات المشرقية المتضخمة التي تخلصت نوعا ما من طغيانها ، وقبلت ؛ نسبيا ؛ باقتسام الريع الثقافي مع نظائر أخرى، تنتمي إلى الأطراف حسب التقسيمات القديمة للجغرافيا الثقافية . الفضاء الأدبي العربي، الآن، أكثر ديمقراطية ونزاهة، والأدب المغربي يرفده بأنساغ فارقة، ويدعمه بإضافات نوعية كبرى على صعيد المتخيل أو المقترحات الكتابية .

p ترفض تسمية معظم أعمالك بالمجموعات القصصية، وتصفها بـ»الكتب القصصية»، التي يتضح فيها عدم اقتصارك على السرد الأدبي، بل تدمج القصة القصيرة بالعديد من الفنون الأخرى. هل هذا السعي إمعان منك في إبراز منطق الحداثة في أعمالك؟ أم أن القصة القصيرة باعتبارها مجرد حكاية فقط ، لم تعد ترضي الذوائق العادية؟

n قلت غير ما مرة إن القصة لن تنهض من كبوتها، وتراجعها في مكانتها الاعتبارية ضمن مملكة الأجناس الأدبية ، إلا إذا تم الانتقال من مرحلة «المجموعة» القصصية المنجمة، المصيغة انطلاقا من أجواء نفسية و إبداعية متباعدة ؛ إلى محطة «الكتاب القصصي» الموحد في موضوعاته وأساليبه ورؤيته الإخراجية . ووفق هذا التصور، يمكن فتح مروحة الحكي على فنون تعبيرية وأدائية مختلفة، وتحقيق « برفورمانس» أدبي مستحدث، يمثل نقلة جمالية نوعية .

p كيف تُنجح التماهي بين الكتابة السردية والتأثيث لها من خلال الكتابة على الفراغ ، على اعتبار أنك تسمي نفسك بـ»مستأجر الفراغ»؟

n إنّني أبحث في الفراغ القصصيﹼّ، وما فيه، وما حوله. و للفراغات في القصة ﺃلف وجه، وألف قناع . فحسب اعتقادي، الحكي موجود في الكون ﺃصلا قبل أن تظهر القصص، وتتطوّر في ما بعد ﺇلى سرد، ثمّ صارت تجريبا فلسفته الفراغ.. فكلّ فراغ في القصة، هو بمثابة طريق فرعيّة، جديدة ، طويلة، غير معبّدة ، ينبغي سلكها تحت جنح الظّلام الموحش ، بحثا عن كتابة مغايرة ..لنقل إن عمر الكتابة قليل، وعمر الفراغ سرمديّ بلا خاتمة .

p  تشير في عملك القصصي «مصحة الدمى» إلى الحقيقة المبهمة لهوية الدمى بقولك: «من قال إن الدمية فارغة وليس داخلها أحد؟»، كما تتكرر هذه الإيماءات إلى رمزية الإنسان من خلال الكائنات التي تكتب عنها في كتاب «سيرك الحيوانات» مثلا، ما سر  هذا  النهج في نقل الحقيقة عبر غرائبية الخيال؟ هل سرد الواقع كما هو يكبح الإبداع؟

n أعد نفسي منتميا إلى مدرسة الفنطاسيا مثلما تصورها الكندي والفارابي و المحاسبي . مدرسة التوهم و العجائبي واللامنطقي . مدرسة « اللامرئي « تبعا لنظرة كليمون روسي . إذ ثمة عالم آخر يعيش بجوارنا، وليست لنا القدرة على النفاذ إلى كنهه ومناخاته . القصة هي وسيلتي الرمزية لزيارة هذا العالم، والحوار مع أشباحه و أطيافه ومخلوقاته .

p عُرِفت باللون السردي التجريبي التغريبي، وشاع عن مسارك في الكتابة هذا الوصف قبل أن تغير هاته العباءة ضمن نفس الجنس الأدبي في بعض أعمالك رافضا هذا التصنيف، ما سر هذا التغير، وهل يمكن أن نشهد تغييرا آخر في قلمك بتوجهك نحو صنف الرواية مثلا في المستقبل؟

n  ليس كلّ تجريب قصصيّ كتابة بالغة الجدّة ، بل قد يكون ﺃسوأ كتابة بالغة التقليديّة ..لا أفكر إطلاقا في كتابة الرواية، لأنني مخلص إخلاصا تاما للفن القصصي ، وثمة اشتراطات وجودية، واجتماعية، وفنية ، وإيديولوجية عميقة وجوهرية ، تحول دون هذا الانتقال أو التقافز الفجائي نحو ضفة جنس آخر.

p ألا ترى أن استقرارك الطويل في جنس القصة القصيرة يبعدك عن شريحة جماهيرية أكبر؟

n في الحقيقة ، لست مهتما كثيرا بهذه الجماهيرية المزعومة، وأعتقد أن فيها مضرة بالغة تجاه الأدب الجيد والمختلف.

p هل يلمس النقاد جوهر ما يكتبه أنيس الرافعي؟

n بكل تأكيد، وقد كتبت عن أعمالي عشرات الأوراق والدراسات وطنيا وعربيا، وثمة من استفدت أيما استفادة من اضاءاتهم ومصاحباتهم لأعمالي المتواضعة… غير أني أريد أن أوضح بأن القصص التجريبيّة نرجسيّة جدا، ولا يمكن أن تفهم بيسر من دون مفاهيم برّاقة تتملّى فيها ذاتها وهويّتها. فاستيعاب الممتع بداخلها يستند دائما في بنيتها العميقة إلى مرجعية نظريّة استبطانيّة، وإلى دفتر تحمّلات جماليّ متبدّل، على اعتبار ﺃنّ كلّ فكر سرديّ يقود تلقائيّا ﺇلى سرد مفكّر .

p كيف ترى مستقبل المشهد القصصي المغربي؟

n بكل صدق، ما جدوى التفكير في سؤال من هذا النوع، الآن ، بالنسبة لي ..لم يعد الأمر  مهما أو يحمل قيمة ما .. إذ ما يشغلني أن تكون الكتابة شكلا من أشكال الاختفاء الطوعيّ عن مراقبة العالم، وتنفيذا لمراسيم الاحتجاب الذاتيّ،  قبل الغياب النهائيّ داخل النص، والمضيّ نحو الجانب اﻵخر من الوجود ، لمزاولة الصمت المحرّر للنفس …


الكاتب : أنجزت الحوار: هند صادقي

  

بتاريخ : 30/08/2023