«في انتظار القطار» شخوص تنتظر خارج حيز الزمن..

بعد حصول المغرب على استقلاله، بدأ السؤال حول تأسيس مسرح مغربي ومن ثم تأسيس فرق هاوية في جميع أنحاء المغرب، والتي ساهم أعلامها أمثال محمد العلوي ومصطفى التومي ومحمد الكغاط وغيرهم في خلق دينامية مسرحية مغربية، من خلال تطوير هذه الحركية وبلورة اتجاهات وتيارات في مجال الإبداع الدرامي. في حين تمركزت الفرق المحترفة بمدينتي الرباط والدار البيضاء والتي تغير فيها مسار المسرح المغربي نحو الإبداع من خلال الحرص على ممارسة مسرحية تحاول إرساء قواعد فنية خاضعة لتوجيه مؤطر، الشيء الذي تجسد في إنتاجات مشرفة ساهمت في تصعيد مسار الحركة المسرحية بالمغرب.
لقد كان من وراء هذه الدينامية أن عرف المسرح المغربي تبين ملامحه وهويته، وذلك بظهور أسماء مسرحية بارزة كان لها الفضل في إرساء دعاماته من خلال خلقها لإمكانيات جديدة في مجال الإخراج، والتمثيل، والكتابة الدرامية، سواء المقتبسة أو المؤلفة كالطيب الصديقي الذي استطاع برؤيته التجريبية وثقافته الشاملة والمتنوعة أن يخلق له اتجاها مسرحيا مستندا على التراث الشعبي المغربي خاصة سلطان الطلبة والبساط وعلى التراث العربي كالمقامات. وأيضا تجربة أحمد الطيب العلج الذي قدم من خلال ما كتبه وما اقتبسه مسرحا بسيطا وسهلا للجمهور، ثم تجربة عبد القادر البدوي التي ساهمت بدورها في تزويد خزانة المسرح المغربي بروائع المسرحيات النابعة من المشاكل الجوهرية للمجتمع، كقضايا البيروقراطية والانتهازية والوصولية وقضايا أسرية كالزواج والطلاق والصراع الطبقي والهجرة.. والتي استطاعت أن تحقق نجاحا فنيا لما تقدمه من شخوص وأحداث منبثقة من صلب الواقع، لعبت دورا كبيرا في تعرية وفضح سلبيات المجتمع العربي عامة والمغربي على وجه التخصيص.
وفقا لهذا النهج، أسس عبد القادر البدوي اتجاها مسرحيا خاصا، استمد خصوصيته الجمالية والفنية من قضايا المجتمع والاسرة. ما تجلى في عروض مسرحية مهمة نذكر منها على سيبل المثال لا الحصر « يد الشر»، «دار الكرم» «كفاح العمال»، «المظلومون»، «في انتظار القطار» هذا الأخير الذي تم عرضه مؤخرا بمسرح سيدي بليوط بمدينة الدار البيضاء، تحت إشراف وزارة الشباب والثقافة والتواصل، وهو من إخراج حسناء البدوي، دراماتورجيا الراحل عبد القادر البدوي، وتشخيص ثلة من الفنانين المغاربة أمثال كريمة البدوي وفاطمة ابليج وحسناء البدوي وإبراهيم العماري وعلاء الدين الحواص، بالإضافة إلى المصطفى منتصر ومحمد عاقيل.
مسرحية» في انتظار القطار» حسب مخرجتها حسناء البدوي «تعد من أهم أعمال مسرح البدوي، وهي من ربيرتوار سنة 1963 ، والتي تم عرضها في إطار إحياء ذاكرة المسرح المغربي وربط الشباب برموزه الثقافية وبتاريخه المسرحي وبالموروث الثقافي اللامادي للمغرب. وهي باختصار وبعد 60 سنة من عرضها لأول مرة على الخشبة، أثبتت أنها عرض مسرحي لا يموت، كونه يطرح قضايا إنسانية مهمة، أبرزها صراع الإنسان من أجل التحرر».
تدور أحداث المسرحية في محطة القطار حيث ينتظر الجميع وصوله للذهاب إلى وجهتهم، وتحكي عن بداية فترة عصيبة من تاريخ المغرب بين ستينيات وثمانينيات القرن العشرين، سميت بـ « سنوات الجمر والرصاص «، والتي جاءت كرد فعل من النظام المغربي تجاه معارضيه الذين حاولوا الانقلاب عليه، وكان من أبرز أحداثها محاولة انقلاب الصخيرات ومحاولة انقلاب أوفقير، وما عرفته تلك الفترة من انتهاكات خطيرة لحقوق الأفراد والمجتمع، تجسدت في التعذيب والقمع والاختفاء القسري والسجن في ظروف لا إنسانية ودون محاكمات.
بطل المسرحية جلاد غير متعلم، يمثل ثقافة الاستبداد التي تمسخ الوعي الإنساني وتحطم أنماطه الفكرية والسلوكية السوية، والذي وجد نفسه صدفة يشتغل مع المخزن المغربي لإعدام الشرفاء أصحاب قضية ومبدأ، سيكلف بمرافقة أحد المحكومين بالإعدام إلى مكان تنفيذ الحكم، وفي تلك الرحلة الطويلة يبدأ الجلاد في طرح تساؤلات حول ماهية وجوده والغرض من جعله جلادا.
في المقابل نجد شخصية الرجل المثقف، صاحب فكر مخالف لما هو سائد في زمن الرصاص من خضوع واستسلام حفاظا على مصالح أصحاب السلطة، يمثل اكتشاف الوجود في ذاته عبر التوق إلى الحرية، والإيمان بها وتبنيها كقضية إنسانية وكونية، وفي حالة انعدامها يصبح الموت بالنسبة له هو الفرصة الوحيدة للخلاص، محققا لقولة سبينوزا» أن آخر ما يفكر فيه الرجل الحر هو الموت: لأن حكمته ليست تأملا للموت بل تأملا للحياة» لتمتح المخرجة حسناء البدوي من الفلسفة عمق الرؤية والاصرار على المساءلة والنقد والبحث عما يرتقي بالوضع البشري، ومن التاريخ ما يشكل العمق الثقافي الخصب وما يعالج من قضية ممتدة في الوجود الإنساني، ألا وهي إشكالية الصراع بين سلط الإرغام وحوافز التطلع إلى الحرية، لتصبح بذلك المسرحية توليدا إيحائيا يعيد إلى الأذهان بعضا مما وثقه التاريخ من روائع قصص العظماء البائسة أمثال السيد المسيح الذي حمل صليبا فوق ظهره واتجه نحو الخلاص وفاء لإيمانه، والفيلسوف سقراط الذي أنفق حياته كلها في إلزام الخير نحو الإنسان ليجد نفسه محكوما عليه بتجرع السم، بالإضافة إلى الحلاج الذي تورط في صراعات مع البلاط العباسي ليتهم بالمساس بالدين والإلحاد، و كان عقابه الضرب بالسوط وقطع يديه ورجليه وإحراق جثمانه.. وغيرهم ممن دافعوا عن أفكارهم ضد السلطة.
وبالعودة إلى أحداث المسرحية، حيث سيلتقي كل من الجلاد والمحكوم بحارس المحطة وزوجته وابنتهم، وهم أسرة بسيطة أمضت حياتها في خدمة من هم أعلى سلطة منها، تكافح وتعيش على أمل الانتظار، يرصدون الاحتمالات الكثيرة لقدوم أحد المسؤولين لكي ينظر إلى متطلباتهم ويكافئهم على ما مضى من عمرهم في خدمة النظام المستبد.
لقد استطاعت المخرجة حسناء البدوي، أن ترسم سمات شخصياتها المركبة بطريقة مركزة ودقيقة، من خلال الكشف عن رؤى ومواقف وتساؤلات وصراعات هذه الأخيرة، الشيء الذي يعكس المسار الإبداعي وخصوصية المدرسة الفنية التي تنتمي إليها المخرجة، كما اهتمت بأن تكون ملامح شخوصها واضحة للجمهور مسائلة عبرها قاصري الوعي النمطيين والمغتربين أمام ذواتهم وأمام الطبيعة والمجتمع، أولئك المعتادون على الصمت والانبطاح، لا يرغبون في مغادرة دائرة القهر لاعتيادهم على الانجرار والقبول بما يملى عليهم، وتنفيذ الأوامر وتقديس المشيئة المستبدة للسلطة مما يزيد من اتساع بؤرة القهر الاجتماعي والانمحاء الثقافي.
وفي قالب فرجوي زاوج بين الكوميديا الساخرة والمسرح الواقعي، طرحت المخرجة بعمق فلسفي قضية منبثقة من رحم التربة المغربية. وبتصوير واقعي عنيف لخصت جوهرها دون الوقوع في فخ النقل الفوتوغرافي للأحداث التي عاشها المجتمع المغربي في تلك الفترة. كما اعتمدت على ديكور بسيط يتكون من كرسي خشبي وشجرة، مما ساهم في تصوير البيئة المادية للأحداث، مستثمرة لكل أبعاد الفراغ المسرحي، وجاعلة منه إحالة على ما يحدثه الانتظار من تعميق شعور القلق والتوتر والرهبة من العقاب حتى وإن كانت كل المعطيات تؤكد على براءة الشخصيات. وفي هذا السياق تشير حسناء البدوي أنها» اشتغلت داخل العرض على سينوغرافيا واقعية بديكور بسيط أو فقير، لكي تعبر عن فقر المنطقة النائية التي تدور فيها أحداث العرض. بالإضافة إلى توظيف إضاءة خافتة وباردة رغبة منها في إيصال إحساس الصقيع والبرد الذي تعيشه شخوص المسرحية.»
إن مسرحية» في انتظار القطار»، إجابة مباشرة وصريحة عن سؤال كيف يمكن أن يصير الانتظار فلسفة حياة وطريقة تفكير؟ وكيف يمكن للإنسان العربي أن يؤسس لثقافة الحرية للخروج من أسر الحاجة المادية التي تخضع الفرد والمجتمع وتجعله يحصر نشاطه في الحصول على الطعام وتلبية الغريزة الحيوانية من أجل البقاء، وتقبل فكرة الموت والنظر إليه في بعده الميتافيزيقي ما دام أنه نتاج تمسك بالمبادئ ودفاع عن القيم والقناعات وإيمان بقضية الحرية الإنسانية، كما أنها طرح فني يبحث عن معالجة واقعية لمشاكل المجتمع المغربي بأبسط الصياغات المسرحية.

ناقدة وباحثة
في المسرح


الكاتب : كريمة كربيطو

  

بتاريخ : 31/08/2023