الطيف الأبيض

 

استأجرتُ دراجةً هوائية، عند حسن البهجة، مُصْلِح الدّراجات ، وقصدتُ مكان التبرعات الذي لايبعد عن منزلي إلا بنصف كيلو متر، وعِدَّة أمتار.. حزمتُ كيساً صغيراً من الكتان الخفيف، وراء حامل الدّراجة الخلفي، وأسرعت نحو مكان التّبرعات لمنكوبي زلزال الحوز.
في البدء، استقبلني شاب في مُقْتبلِ العُمر، هذا الذي ، فوجئت به يقبلني في جبيني، حين سلمته الكيس الصغير،حذرتهُ بعدم فتحه،ثم تسللتُ بهدوء، كما فعلت أثناء مجيئي،أول مرة.
اسْتثار حذري فضول الجماعة. ففكرتُ بالابتعاد عنهم قليلا، وأنا أسوق دراجتي على مهل.. سمعتُ من يمتدحني، خلف ظهري : يبدو من مظهره الذي يدل على الطيبة، بأنه واحد من أولئك الذين يمارسون (فن النّساك).
طلب واحد من الجماعة، بصوت جهوري ، بأن يشرح لهم معنى كلامه، وما يقصده ب(فن النّساك)؟
في الحقيقة، لم أعرفُ صوت من ذاك الذي أجابهم على مضض، بالإنابة عن متلقي السؤال: بأن الرجل يمارس فن صناعة الكيمياء ! وربّما، يكون داخل محتوى كيسه مسحوق، ما أن ينثره الواحد على المعادن الخسيسة، حتى تتبدّل إلى ذهب !
ذهب؟؟ أرجوك، أرجوك.. افصح عن كلامك جيداً..
قال الدراجيّ العجيب، بينه وبين نفسه:
لن أستبقي سرّي لنفسي
وأظن أنهم سيفتحون الكيس، وسيطّلعون على محتواه، إلا أنني رفعت كتفي عاليا، غير مبال، وقلت، فليكن، ذلك لم يعد يعنيني في شيء.
عبرتُ الشارع العريض، مثل طيف خفيف، ولم يعرني أحد أي اهتمام.
قبل أن يغادر، الدراجي العجيب،المكان، التفت بخفة، ناحية تجمع رجال من المحسنين،هو الذي، رأى رأي العين، بأنهم وضعوا كيسه الصغير، فوق عُلب كراطين الزيت، والسّكر، والدقيق، ما أن لامسها كتان الكيس الصغير حتى بدأتْ في التعدد والتكاثر، بشكل لافت، وربّما في الزيادة والانتشار، حتى ضاق بها المكان الشاسع، وتعدى ارتفع عُلوّ السلع، والبضائع، ماكان متوقعا، حتى سدّ عين الشمس!
استثار الأمر حفيظتهم، وفضولهم.بل، أسقط في يدهم على ما لاحظوه من وفرة الأغطية والبضائع، وتعدد أحجامها وأشكالها،التي تراكمت بشكل مدهش ، حتى بدأ علوها شاخصا، على شكل هرم ماثل، أمام أنظارهم، وأبصارهم، ذلك هو ما أصاب الجماعة بالذهول، فأوّلوا ذلك إلى صنيع الرجل الوقور!
الآن، تأكدوا من معجزة الكيس الصغير، وعليه، تطوع من يفتحه حتى يطلع الجميع على سرّ محتوى الكيس.. إلا أن هناك، من عارض هذه الفكرة، واستخف بها. كون هذا الكيس الصغير، الذي لاتتسع سعته، حتى لحفنة أرز، أو مُدّ من البُر،بأن يفعل كل هذه المعجزة؟
وهناك، من ألوّى شفته السّفلى،ساخرا، ومتهكما ، من تفاهةِ عُقولهم الخُرافية.
وعلى الرغم، من ذلك، تدفقت الخيرات و البضائع بشكل لايصدق،حتى فاق انتشارها احتلال أرضية المكان الشاسعة. هذا، الاكتظاظ هو ما اضطرهم إلى الخروج منه. في الحقيقة، هناك أشياء جلية حدثت لاتقبل جدالا في تكذيبها !
الآن، من يستطيع تكذيب هذه المعجزة وصاحبها المتواضع؟ هذا الذي يبدو من هيئته النحيفة، والدقيقة جدا،الشبيهة بشعرة بيضاء واهية، بأنه غير قادر على فعل كل هذا العجب العُجاب؟
قال الذي تسلم الكيس مباشرة من الدراجي العجيب:
إن الرجل الطيب المظهر «مُعجزة..»
لم يصدق الرجل، سمعَهُ و بصرَهُ، في ما يذاع وينشر عنه، من أخبار وصور.. حتى كيسه الصغير،لم يسلم من ذلك، تخطت أخباره حدود الوطن.. هو الذي لايرجو من وراء واجبه التضامني، أي جزاء أو ثناء، إلا تأكيد حضوره ، وإراحة ضميره الإنساني، أمام منكوبي فاجعة زلزال الحوز.
وعلى الرغم من ذلك،هناك من تعقب أثر عجلة دراجته المتواضعة،على طول الطريق، والمسالك الضيقة جدا، بين درب القنّارية، حتى وصل إلى دكان مُصلح الدراجات حسن البهجة، فوجد هذا الأخير منهمكا في لعب الضامة مع رجل مسن يبدو من ملابسه بأنه جندي متقاعد. كان حضوره المباغت و المفاجئ هو الذي جعل اللوح الخشبي يسقط من فوق ركبتي الرجلين، وتتناثر براغيه، وقطع أخرى صغيرة من الحديد، فوق الأرض، كانت تستعمل بيادق للضامة. نفى الرجل قطعا بأنه استأجر دراجة هوائية واحدة، طيلة هذا النهار بكامله، وزكى شهادته، صديقه السي عبدالسلام العسكري،خصمه اللدود في لعب الضامة..إن هو كذب في كلامه.
عاد متعقب الأثر خائبا على أعقابه، ومتأسفاً، لعدم عثوره على الدراجي العجيب،فأوّل ذلك إلى حلم زاره في يقظته ! لولا الصور والفيديوهات التي التقطت للرجل.. والتي ذاع بثها و انتشرت أخبارها، في كبريات المحطات التلفزيونية العالمية، لما صدقت حكاية الطيف العجيب، و ما صدقت، كذلك، حتى وقوع زلزال الحوز، الذي بلغت قوة درجاته 7على سلم ريتخر.. رغم ذلك، مازال الشك يراوده، فدفعته حيرته وشكه إلى عدم تصديق ماحدث، وهو ما جعله يجدد طرح أسئلته على بعض من يثق في صدقهم من أصفيائه، هل فعلا، شعروا بزلزال ليلة أمس الجمعة ؟
إذا كانت إجابتكم بالإجماع بنعم، فإن الطيف الأبيض، هو كذلك، حقيقة مؤكدة، قد مرّت من هنا.


الكاتب : محمد اكويندي

  

بتاريخ : 20/09/2023