للثقافة دور أساسي في إعادة اعمار وتنمية المناطق التي أصابها الزلزال

الآن وقد بدأ الزلزال يستقر والأرض تعود لهدوئها ووتضاءلت أو توقفت ارتدادات هزاتها وتدفقت المعون من أغذية وألبسة وخيام حد الاكتفاء وزيادة وتماثل أغلب الجرحى للشفاء واستقر الشهداء في مراقدهم الابدية في ضيافة خالقهم.
وشهدنا وشهد العالم انطلاقا الإجراءات العملية للبدء في إعادة البناء وتشييد ما تهدم وترميم ما تصدع في مراحل محددة ومضبوطة في الزمان والمكان وقدرت المبالغ المالية اللازمة ومصادرها، وعين المشرفون على التخطيط والتنفيذ. ناهيك عن الجهود التي تبذل لإتمام فك العزلة واصلاح البنى التحتية.
انطلق النقاش حول تحدي إعادة البناء، لكن النقاش أيضا مستمر في كيفية إعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافة إلى وضعها الطبيعي بل واحداث تنمية اقتصادية مندمجة تقضي على التهميش الذي تعانيه المناطق الجبلية في الأقاليم المتضررة لتكون نموذجا لتنمية المناطق الجبلية عموما واخراجها من العزلة.
ولعل ما تزخر به تلك المناطق من ثروات طبيعية ومعالم عمرانية وتاريخها العريق وأثرها الأركيولوجية والجيولوجية. ومختلف عناصر الثقافة كفيلة بأن تكون احدى رافعات التنمية الاقتصادية والبشرية لتلك الربوع.
ولقد كشف الزلزال للعالم وأعاد التذكير للمغاربة بعدد من المأثر التاريخية التي لعبت دورا محوريا في تاريخ الأمة المغربية في العهود القريبة والتي تعرضت لدمار كبير كمسجد تنمل (المدرسة) الذي كان مهدا للإمبراطورية الموحدية (1121-1269م)
وبين جدرانه تم التكوين الفكري والديني والمذهبي والتأطيري لهذه الدولة ومنطلق قوتها الروحية لتتولى إدارة الدولة المغربية مكان الإمبراطورية المرابطية (1056-1147م) التي كانت قاعدتها الأولى بعد الانطلاق من رباط الصحراء على ضفاف نهر السينغال هي مدينة تارودانت والتي شهدت زواج أول أمير مرابطي بإحدى أشهر نساء المغرب زينب النفزاوية الزناتية، ثم زوجة لأكبر إمبراطور مرابطي يوسف بن تاشفين .الذي جند قبل عهد الموحدين قبائل الأطلس الكبير للجهاد وبناء الدولة. المنطقة أيضا ساهمت في ارساء دعائم الدولة السعدية التي انطلقت من منطقة درعة ثم تزنيت وسجلماسة فتارودانت فمراكش. كما أن مؤسس الدولة العلوية المولى علي الشريف دفين مراكش هو والد السلطانين مولي رشيد ومولي اسماعيل. هو حفيد مولي علي الشريف دفين سجلماسة بتافيلالت.
ومنطقة الأطلس الكبير الأوسط التي تركز فيها الزلزال تزخر بالقصبات المخزنية مثل قصبة الكندافي بالحوز التي دمرت وقصبة ايت بنحدو وغيرها من الدواوير واغرمات واكاديرات (الأبناك القديمة)..التي تضررت. إضافة إلى أسوار تارودانت العظيمة التي طالتها الشقوق. والمساجد والقصور والاحياء التي تساقطت في النسيج الحضري القديم لمراكش.
ولا بأس أن نشير إلى أن المنطقة عرفت عبر العصور تلاقي ومرور الجماعات البشرية من المصامدة وزناتة القادمين من الشمال إلى صنهاجة القادمين من الجنوب والذين بلغوا إلى تخوم الريف وانتشار القبائل العربية من الصحراء إلى الرحامنة والى منطقة الغرب. ناهيك عن المكونات: الافريقي واليهودي والاندلسي. المندمجة في التركيبة السكانية للمنطقة مثل كل مناطق المغرب فإذا تضامن المغاربة مع هذه الربوع فإنهم إنما يتضامنوا مع أنفسهم وذويهم. وذلك لعمري درس آخر لمن لا يعي عمق تلاحم المغاربة وتعلقهم ببعضهم و بتراب وطنهم كاملا فإذا كان ذلك من عوامل نجاح المسيرات المغربية في محطات تاريخية وطنية ، قومية ودينية عربية وافريقية ،فإن ذلك سيكون ولا شك من عوامل نجاح النهوض بالمناطق المتضررة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا …
ومن حيث غنى الاقاليم المتضررة التراثي وتنوع طبيعة المعمار.
فإنها تتميز بشموخ الجبال وسمو الإنسان وعمق الأودية واصالة وغنى الثقافة.
فالطبيعة في تنوع كبير بين تلال رمال الصحراء بالجنوب الشرقي (محاميد الغزلان). الى ثلوج قمم الاطلس بأوكايمدن و جبل مكون(g) وتوبقال…) إلى شواطئ الاطلسي (أكادير الصويرة للخ.. ) وكلها مناطق ساحرة تسر الناظرين.
أما الغابات المتنوعة الأشجار والنباتات والحشائش والوحيش فحدث ولا حرج. مع ما يتخلل ذلك ويتفاعل معه من مناخ جد متنوع من الحرارة المفرطة والبرودة القاسية والاعتدال الطيب حسب الفصول. مما جعل فعل الإنسان عبر التاريخ يكسب خبرة في الفلاحة وتربية الماشية. وانتاج انواع الفواكه الأصيلة والصحية من اللوز والجوز إلى التين والزيتون والاركان وانواع التمور ذات الصيت العالمي.
ولا ننسى التنوع الطوبوغرافي والجيولوجي من أنواع وألوان الطبقات الصخرية والترابية المثيرة للدهشة والتي تشمل في عدد من المحميات الطبيعية والأمكنة التي تحتوي على آثار الإنسان المغربي القديم. من رسوم ونقوش صخرية في السطوح الحجرية في الأعالي وفي الكهوف والمعالم الجنائزية والتي تعكس الحياة الإنسانية والحيوانات في عهود ما قبل التاريخ اي منذ آلاف السنين.
ومما يميز المنطقة ايضا ثراء وتنوع المعمار البشري وجماليته في القرى والمداشر والاغرمات بأصالتها وانسجامها مع محيطها ناهيك عن الجمال الاخاذ للمدن باسوارها وابراجها واقواسها وقصورها ورياضاتها ومساجدها وصوامعها.
فكنوز الاطلس الكبير التراثية والطبيعية تحتاج لتنقيب ولها موقع وسط اذ تطل المناطق المنكوبة على عدد من المدن السياحية بامتياز التي تزخر بالمعالم التاريخية والعمرانية والتراثية الغنية والمتنوعة ذات الصيت العالمي و المصنفة كتراث انساني من طرف اليونسكو فلا أشهر من مراكش ووارزازات، وتارودانت واكادير والصويرة والتي تحيط بالأطلس الكبير الاوسط كزوايا نجمة خماسية تؤطر المنطقة شعاعها الذي يقارب المئة كلم. وهذه المنارات لا شك إذا سلطت اضواؤها على جبال المنطقة الشاهقة ووديانها العميقة ستدعم النهوض المنتظر والتنمية المنشودة، إذا وقع بناء وتجديد البنية التحتية من طرق ومنشأت فنية وتجهيزات أساسية في المدن الصغيرة والقرى. لاستقبال الاستثمارات السياحية خصوصا والفلاحية المناسبة للبيئة الجبلية السائدة. وإعادة البناء بأصالة ومتانة وجمالية. وغير خاف بهذا الصدد ما يقوم المهندسون والمعماريون في القطاعين الخاص والعام منذ الساعات الأولى التي اعقبت الزلزال من لقاءات ومبادرات واقتراحات عملية متعلقة بنماذج للبناء مقاومة للزلزال تستعمل المواد المحلية تراعي المتانة والاصالة وانخفاض التكلفة باستحضار تجارب دول أخرى.
وللإشارة هنا فإن أي تخطيط للقرى يجب أن يراعي الظروف الطوبوغرافية ولا تهمل إحداث مرافق: تربوية مدارس ومعاهد التكوين ورياضية من ملاعب القرب قاعات سوسيو رياضية وثقافية من دور للثقافة، ومتاحف للتراث اللامادي .الشفوي والموسيقي من أحواش، رقصة تسكوين. الروايس حيدوس. انشادن ) والألبسة والحلي وأدوات الزينة الامازيغية الجميلة واجتماعية اقتصادية( دور الطالبات والطلبة ومقرات الجمعيات الاجتماعية والتعاونيات الإنتاجية لتثمين المنتوج الثقافي والفلاحي المحلي والصناعات التقليدية وفنون الحرف (خزف حديد فضة ذهب خشب) وذلك كله حسب حجم التجمعات السكانية ومراعاة القرب.
ومن مقومات المنطقة نشير إلى باطن جبال الاطلس الكبير الأوسط يختزن ثروات معدنية من أثمن المعادن، أولها الكوبالت. اليورانيوم الذهب، الفضة، الرصاص، النحاس الزنك في مناطق امزميز.ازكوندير.بوغادير…
والتي من المفروض ان تستفيد منها المنطقة من أجل التنمية.
ومعلوم ان أودية ومناطق دير الحوز وشيشاوة وتارودانت تتواجد بها واحات غنية بالزراعة المعاشية من اشجار مثمرة لوز جوز أركان زيتون الخ…ناهيك عن الخضر. وتربية الماشية. وهي ثروة حقيقية مطلوبة حاليا ومستقبلا إذا ثمنت وسوقت بطرق مبتكرة. تغذي فنا ثقافيا أصيلا في الطبخ والتغذية.
فالثقافة في المنطقة ليست فقط في باطن الكتب والمظاهر الأخرى بل هي كتاب صفحاته منشورة على سطوح صخور الجبال والهضاب العالية و سفوح الأودية العميقة أشهرها موقع ياكور بمنطقة توبقال حيث تم احصاء حوالي 20 موقعا. على مساحة تقدر ب50 هكتارا تعج بالرسوم والنقوش للأدميين وللحيوانات التي عرفت في المنطقة في فترة خصوبة الصحراء وبداية عصر التصحر (6000 سنة قبل الميلاد) ونروح الإنسان و الحيوان إتجاه الجبال بحثا عن المراعي. وتشمل رسومات انسان العصرين الحجري والبرونزي الإنسان بأسلحته ومقدساته السماوية (الشمس والنجوم) والارضية (جبال، كهوف). اضافة الى الرموز الهندسية وحروف تيفيناغ التي تعتبر من أقدم الكتابات في شمال أفريقيا والصحراء. ونقوش الحيوانات كالزرافة ووحيد القرن ، الغزال البقر الفهود ، الفرس الخ.. والتي تمثل غنى الثقافة منذ ما قبل التاريخ في المنطقة. وجدير بالذكر ان موقع اقدم انسان عاقل في العالم يوجد في جبل ايغود (45كلم) شمال شيشاوة. وعمره قدر ب315000 سنة.
يساهم ذلك في دعم واحداث مدارات السياحة الثقافية والطبيعية تدمج تواجد محميات طبيعية اهمها محمية توبقال. والبحيرات مثل بحيرة أفنى (2300م فوق سطح البحر) وبحيرات السدود العديدة.
وللإشارة فإن تسمية اطلس ترجع إلى اسم ملك الامازيغي اطلس الذي حكم شمال المغرب بداية الالف الاولى ق م . وعرف كعالم رياضيات وفلك ومن اسمه اشتقت كلمة الاطلس الجغرافي والخرائطي، ناهيك عن الأساطير اليونانية والرومانية التي ألفت حول أطلس ابن الالاه بوسيدون (الاه البحر عند اليونان). واسطورة اختفاء قارة أطلنتس في منطقة جنوب الاطلس الكبير.
أما الزخم التاريخي في العصور التاريخية القريبة فتشهد عليه الآثار المعمارية والاركيولوجية في مدن المنطقة والقلاع والقصبات والتي تضررت بفعل الزلزال وتحتاج إلى إعادتها إلى طبيعتها حتى تلعب دورها في التنمية السياحية.
وتجدر الإشارة الى ان جزءا مهما من تاريخ المنطقة مسجل في أمهات كتب المؤرخين في العصور اليونانية والرومانية. وخاصة الإسلامية. ومن أحدثها يكفي الإشارة إلى كتابات العلامة المختار السوسي في كتابيه المعسول وسوس العالمة.
ومن تراث المنطقة المعاصر ما سطره مقاومو الاستعمار من بطولات وما قدموه من تضحيات نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الحاج عمر المتوكل الساحلي. بنسعيد ايت أدر. الحبيب الفرقان، لفقيه البصري.
أما أهم الكنوز الإنسانية فهو ما يتميز به الإنسان المغربي عموما والاطلسي في المنطقة خصوصا. من قيم تمغربيت المتأصلة في الإنسان الامازيغي من أخلاق عالية وكرم وتسامح وانفتاح
وما يختص به من أصالة معروفة في اللباس. فالزي النسائي أشهر من نار علم
وأما الرجالي فتكفي للإشارة الى الطريقة الخاصة في طية العمامة والجلباب وحمل الشكارة والخنجر المعقوف وحلاقة الراس والذقن. وقص شعر الأطفال وظفر الزكاكير، (الجدائل) وهي أجمل مما هي عليه الحلاقة العصرية للشباب.
ولعله من عناصر نجاح عملية التعمير وتنمية المناطق المنكوبة جراء الزلزال. هو ما أعلن عنه من تكليف وكالة خاصة للإشراف على تنفيذ العمليات والإجراءات الممتدة افقيا وزمانيا توخيا للنجاعة بناء على النجاحات التي حققتها وكالات الأقاليم الجنوبية. والشمال والشرق. كما أن من المفيد إخراج قانون الجبل إلى الوجود الذي اقترحه وألح عليه منذ مدة الائتلاف المدني من أجل الجبل. لتكون العملية نموذجا يقتدى لإخراج المناطق الجبلية الأخرى من التهميش. ولجعل الثقافة بمختلف عناصرها المادية واللامادية التي تزخر بها تلك المناطق رافعة للتنمية. ومناسبة للحفاظ عليها وتنميتها.


الكاتب : محمد أبومهدي حسني

  

بتاريخ : 03/10/2023