«الفزاعات تستقيل» للكاتب مصطفى النفيسي احتفاء آخر بالكائن الإنساني الهش

يسافر بنا الكاتب المغربي مصطفى النفيسي سفرا جديدا في دروب الحكي والتخييل، إذ صدر له كتابه السردي الثالث الموسوم ب” الفزاعات تستقيل”، وذلك عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالعاصمة اللبنانية بيروت. وجاء هذا الكتاب في 136 صفحة من الحجم المتوسط.
كتاب يجسد لبنة أخرى في مساره الإبداعي الذي يضع فيه نصب عينيه الدوائر الصغيرة التي يتموقع فيها الإنسان المعاصر، محيطة به جدران هشة قد تسقط في أي لحظة. لذلك فهو كتاب يحتفي بالإنسان في مفهومه اللانهائي. هذا الكائن الشخص الذي يسير في هذا اللامكان مثل فزاعة. فلطالما كانت الفزاعات رمزا لأوهام المزارعين والفلاحين الذين يعتقدون بأنهم سيجعلون الغربان تقلع عن المجيء إلى حقولهم، ولذلك سيأمنوا من تخريبها لمحاصيلهم الزراعية. لكن الواقع هو أن هؤلاء المزارعين أنفسهم قد تحولوا في دروب الحياة الملتبسة إلى فزاعات. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل سيمتد إلى جميع الكائنات الإنسانية التي تحولت هي الأخرى إلى فزاعات لا تحرس أي شيء. هذا يعني أن الإنسان المعاصر يحيط نفسه بالأقنعة من أجل التخفي. هاته الأقنعة جعلت الناس يتحولون إلى مجموعة من الأشباه. وهذا ما كان يحذر منه المفكر الألماني مارتن هيدجر الذي اعتبر بأن “الوجود مع”، أي الوجود مع الآخرين سينسف وجود الإنسان، وسيقضي على فردانيته حينما سيجد نفسه محشورا وسط الحشود التي لا تختلف عنه، بما أنها هي الأخرى ترتدي نفس الأقنعة. وهكذا سيتلاشى وجود الإنسان إلى أن يصبح “لا أحد”. وهذا يعني أنه سيصبح مجرد فزاعة التي هي في الحقيقة “لا أحد”. فحينما تزدحم الفزاعات داخل حقل، فذلك يعني أن لا أحد بداخله، مما يجعلها لقمة سائغة في أفواه الغربان. لذلك كان على الفزاعات أن تستقيل مادامت أصبحت بدون قيمة.
من جهة أخرى فقد حان الوقت للتخلص من الرموز المزيفة. فهذه الرموز ليست سوى فزاعات. فهي لم تعد تخيف أي أحد، لأن أقسى ما تم في هذا العصر هو أنه أخرج كل الكائنات الإنسانية من دائرة الزيف إلى دائرة الوضوح.
كتاب”الفزاعات تستقيل” إذن هو بمثابة احتفاء آخر بالكائن الإنساني الهش. وهو احتفاء يجعله أولا وأخيرا أمام مصيره. يجعله يحدق بدهشة في مستقبله الذي يراه الآن. إنها لحظة انكشاف و محاسبة. فالإنسان يتسلم فاتورة ما اقترفت يداه، وما أقدمت عليه أحلامه من توسع تم في االهزيع الأخير من ليالي حالكة الظلمة. لا شيء يحدث الآن، فحيل الإنسانية انكشفت. ولم يعد هناك أي متسع لأي مزحة أخرى. كل العتمات التي سار فيها مغمضا عينيه، ومطلقا العنان لأكاذيبه، تتحول إلى مساحات مكشوفة ومكسوة بآلاف المصابيح المعلقة التي لا تدع أي فرصة للتخفي المريب أو للتغاضي المتحامل على الحقيقة. هو وقت للترنح والإشرئباب بالأعناق. إشرئباب بدون جدوى، ما دامت الجدران تغطي كل شيء. فلا شيء لتراه الإنسانية، لأنها رأت كل شيء. ذلك أن ساعة الهدم بدأت. بدأت كي لا تتوقف. فالأصنام والأيقونات المزيفة تتساقط في كل مكان. إنه عصر جديد يبدأ. عصر سيصبح فيه الإنسان مجرد كائن بدون وجود حقيقي. فالآلة تقضم وجوده، وتصعب عليه حركاته، بعد أن سهلتها لزمن طويل. والكائنات الإنسانية تمشي في طابور طويل متحولة الى فزاعات لا تخيف أحدا. كل الرموز تسقط الآن، ولا أحاجي أو ألغاز في الأفق. لقد مضى زمن التواري خلف الأشجار مثلما يفعل الأطفال في لعبة الغميضة. كل شيء واضح ومكشوف. لقد مشت الإنسانية ألف سنة ضوئية في ليلة واحدة. لذلك استيقظ الإنسان ليجد أن الحياة قد تغيرت، وهو نفسه قد تغير. ولم يعد بوسعه سوى أن يخبط خبط عشواء كما لو كان في متاهة. متاهات تتكاثر وتتحد لتصبح جيشا عرمرما لا يمكن لأحد هزمه. فلا الفزاعات، ولا الأساطير القديمة تستطيع أن تفتح فتحات صغيرة في سقف الرؤية. فالفزاعات اقتنعت بضرورة أن تتنحى بعد أن تحولت الغربان إلى شياطين ومردة. ولذلك يجب أن تتقهقر مثل جيوش مهزومة، لن تستطيع خوض أي معركة بعد الآن.


بتاريخ : 04/10/2023