التعليم والصحة قضيتا هوية ووجود
عبد السلام المساوي
يستحضر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في دفاعه عن الدولة الاجتماعية، تصوره المتكامل لهذه الدولة بمختلف مكوناتها الأساسية، والتي يمثل ضمنها قطاع الصحة الركن الأساسي الذي يقوم عليه الحق في الحياة باعتباره أول وجوهر كل الحقوق الأخرى.
ولذلك، فإنه ليس من قبيل الصدفة أن يحمل قانون التأمين الإجباري عن المرض رقم 65.00، لأن هذا الورش الاستراتيجي لبلادنا، كان الفضل فيه لحكومة التناوب التوافقي التي قادها أخونا المرحوم عبد الرحمن اليوسفي.
لقد صدر هذاa القانون بمبادرة حكومية سنة 2000، في عز الأوراش التي بادر بها الاتحاد الاشتراكي، بتوافق تام مع الإرادة الملكية التي لم تتوان عن دعم برامجه الاجتماعية.
لقد كان لهذا القانون الأثر البالغ في فتح ورش الحماية الاجتماعية التي تعمل بلادنا جاهدة على ترسيخ دعائمها تحت الإشراف الملكي المباشر؛ فقد تم فتح المجال أمام الفئات الشعبية الهشة والفئات محدودة الدخل لولوج مرفق الصحة الذي يشكل بالنسبة لها الباب الوحيد للحفاظ على صحة أفرادها، بل وإلزام السلطات العمومية بتوفير البنيات والخدمات اللازمة لتحقيق هذا الغرض.
ومع توالي مؤتمراتنا الحزبية الوطنية، بلورنا برنامجا متكاملا للدولة الاجتماعية، وخاصة مع المؤتمر الوطني العاشر والحادي عشر، حيث تم تعميق تصورنا لهذا المنظور الذي شكل أحد أسس الاشتراكية الديمقراطية التي تعد عماد سياساتنا، وقد وضعنا قطاع الصحة، بمختلف تجلياتها، في صلب هذه الحماية الاجتماعية.
لقد كان منظورنا، كاتحاد اشتراكي، منظورا متكاملا، يهتم بالصحة العمومية، والبنيات اللازمة لذلك من مؤسسات للتكوين، ومصانع للأدوية، ومختبرات للتحليل، إلى جانب المستشفيات والمراكز الصحية.
لكن، كانت الموارد البشرية في صلب اهتماماتنا، من أطباء، وصيادلة، وممرضات وممرضين، وتقنيين وإداريين.
لذا، أحييكم تحية حارة، باعتباركم الوسيلة البشرية القادرة لوحدها على رفع التحديات التي تواجهها بلادنا.
يصح بالنسبة لبلادنا أن نقول كم من نِقمة في طيَّاتها نِعمة، ولولا كورونا ما وصلت بلادنا إلى هذا المجهود في ما يتعلق بالوضعية الصحية وأوضاع الصحة العمومية، وأنا كفاعل سياسي، في الوقت الذي أعلن جلالة الملك الإجراءات الكبرى المتعلقة بالحماية الاجتماعية، قمت بقراءة مقارنة لما جاء بنتائج ولما كان في مطالبنا من أحزاب سياسية، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لم تكن إمكانيات البلاد تسمح أن نتحدث في أفق 2025 عن هذه النتائج المتعلقة بالحماية الاجتماعية والوضعية الصحية، اليوم لنا أن نفخر أن المواطن البسيط سيدخل في هذه الحماية الصحية؛ هذا كان تحديا كبيرا تم النجاح فيه بالإرادة الملكية.
من المؤكد أن فيروس كورونا أعطى للعالم درسا قاسيا، ففي الوقت الذي كانت سياسات الغالبية الساحقة من الدول، ومنها المغرب، تتجه نحو خوصصة خدمات الصحة، أظهر «كورونا» للعالم أن هذا القطاع لا يجب أن يكون في أيدي أصحاب رؤوس الأموال أو الشركات الخاصة، وأن عليه أن يبقى محتكرا في يد الدولة .
الكلام نفسه صرح به وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر لصحيفة « دي فيلت»، بأن أهم درس يقدمه هذا الوباء للعالم هو أن قطاع الصحة يجب أن يكون عموميا وموجها لخدمة الجميع، مؤكدا أن الأزمة الحالية كشفت ضرورة التحرر من سيطرة الشركات على الإنتاج الدوائي حول العالم، وتبني قرارات سياسية لتقوم الدول بتصنيع أدوية لمكافحة كافة أنواع الأوبئة المتوقعة .
في سياق المعركة ضد « كورونا « برزت الصحة العمومية في قلب الهجوم، فوحدها من أظهرت فعالية وقدرة على المجابهة، كما ظهر في كل البلدان التي انخرطت في المعركة. من هذا المنطلق كان رجوع كثير من الدول إلى سياسة « التأميم « ، والمقصود بها نقل ملكية قطاع معين إلى ملكية الدولة، أي تحويله إلى القطاع العام . صحيح أنه قبل زمن كورونا كان هناك توجه عالمي نحو خوصصة القطاع العام أو على الأقل تقوية حضور القطاع الخاص، لكن التجربة أكدت أن القطاع الفعال على مستوى الخدمات عند الأزمات هو الذي يكون تحت تصرف الدولة مباشرة، وهكذا فقد تراجعت كثير من دول العالم عن المضي في سياسات الخوصصة وسارعت إلى بسط نفوذها على القطاعات الحيوية- وعلى رأسها الصحة- باعتبارها أسلحة في مواجهة الأزمات المعقدة .
ومما يزكي ضرورة الانخراط مستقبلا في تقوية القطاع العام، أن الريادة كانت قبل كورونا للقطاع الخاص الذي كان يقدم أجود الخدمات في كل المجالات، بما فيها الصحة، لكن في زمن الجائحة لم تتصدر المشهد العام في بلدان العالم سوى الصحة العمومية، وظل القطاع الخاص مكملا في بعض الدول، وغير مشارك في دول أخرى، مما يزيد الرهان على كل ما يوجد تحت إمرة الدولة وما يتحرك باسمها مباشرة .
إن ورش الحماية الاجتماعية التي وضع لها صاحب الجلالة تصورا متكاملا، ورش مشترك بين كل القوى الحية ببلادنا، والتي لا يحق لأي طرف كان، أغلبية أو معارضة، الانفراد بها وتحويلها لصالحه. تتواصل عمليات أركان ودعامات الدولة الاجتماعية خيارا استراتيجيا انتبهت إليه المملكة المغربية منذ سنوات، حين تأكدت أن النموذج التنموي بشكله السابق لم يعد وعاء كافيا لاستيعاب القيم الكبرى للتضامن والتكافل الاجتماعيين والاندماج والعيش المشترك والمساواة .
وإلى جانب الإجراءات الاستعجالية المعتمدة في عدد من الدول، كان جواب المغرب متقدما في شكل نموذج للاستثمار البعيد المدى في المنظومة الاجتماعية، وربط المواطن بمشاريع التنمية، وتحوير السياسات العمومية برمتها لفائدة تقليص الفوارق، وتحقيق العدالة المجالية والترابية، والوصول إلى الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا وحاجة وهشاشة، عبر آلية للإحصاء الدائم وضبط الحالات في سجل اجتماعي وطني .
لقد انتبه نظام الحماية الاجتماعية إلى أن المواطن لا يحتاج فقط إلى خدمات التغطية الصحية والولوج إلى المستشفيات وتقريب المؤسسات التعليمية، وشق الطرق والمسالك وبناء المساكن، بل يحتاج أيضا إلى «الصرف» أو الدعم المالي المباشر. وفي هذا الإطار بالتحديد، يأتي تشديد المجلس الوزاري، الذي ترأسه جلالة الملك، يوم الخميس 19 أكتوبر 2023 ، على الإسراع بصرف اعتمادات مالية للمواطنين لا تقل عن 500 درهم لكل أسرة في أجرأة للتوجيهات الملكية، التي حرص جلالته على تأكيدها في افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان، يوم الجمعة 13 أكتوبر .
ويمكن اعتبار الشروع في صرف هذه المبالغ، بعد المصادقة على التوجهات الكبرى لمشروع قانون المالية 2024، أهم حدث في نهاية السنة الجارية، وترجمة فعلية للالتزامات، ووفاء بالوعود، وحرصا على استكمال هذا الورش الوطني الكبير، وتنزيله في أقرب وقت لفائدة الفئات الاجتماعية، الأكثر ضررا من توالي سنوات عجاف من سوء التدبير .
بكلمة واحدة، إن الدولة الاجتماعية ليست، فحسب، جوابا عمليا عن أزمة حالية، وأخرى قد تكون في الطريق، بل حتمية لمأسسة مجتمع التكافل والتآزر والتضامن والمساواة، ونبذ الإقصاء .
الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 31/10/2023