عندما تخلت فرنسا عن سياسة دوغول تجاه القضية الفلسطينية

باريس .. يوسف لهلالي

 

من المؤكد أن الجنرال دوغول، مؤسس الجمهورية الخامسة بفرنسا، سوف يتقلب في قبره عندما يعلم بموقف بلاده، وبموقف رئيس الجمهورية الفرنسي الحالي الداعم على نحو لامشروط لسياسة إسرائيل الاستعمارية تجاه الفلسطينيين. وهي سياسة انتهجها دوغول في قطيعة مع سياسة الجمهورية الرابعة التي كانت هي الأخرى الحليف المطلق لإسرائيل في حروبها الاستعمارية ضد الفلسطينيين والعرب.
وهو ما أصبح يسمى في السياسة الخارجية لفرنسا “بالسياسة العربية لفرنسا”، والتي بدأها الجنرال دوغول وتطورت مع باقي الرؤساء خاصة فاليري جيسكار ديستان وجاك شيراك. وهي سياسة سوف يتراجع عنها لأول مرة، وبشكل واضح في تاريخ الجمهورية، الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند الذي نهج سياسة التأييد المطلق لدولة الاحتلال، لاعتبارات إيديلوجية خاطئة، ذلك أنها تدخل في إطار التحالف التاريخي مع حزب العمل الإسرائيلي العضو بالأممية الاشتراكية، والذي اختفى من الساحة السياسة الإسرائيلية ولم يعد له تأثير، و أصبح يهيمن عليها اليمين المتطرف الفاشي ونتانياهو مند عقدين تقريبا. الأمر الذي أذكى التطرف السياسي بالمنطقة، والذي لا يتوقع أحد انعكاساته على كافة الشرق الأوسط. أما نيكولا ساركوزي الرئيس السابق، فرغم قربه من الجمعيات الإسرائيلية الحليفة للكود ولنتانياهو بفرنسا، فإنه حافظ على التوازن في سياسته تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية، وكان لا يتق في نتانياهو.
اليوم، نرى أن سياسة الحكومة الفرنسية، وتحديدا سياسة رئيس الدولة إيمانويل ماكرون، هي الدعم والمساندة المطلقة واللامشروطة لسياسة الاحتلال الإسرائيلي، بل تبني سياستها العنصرية ،وهي عدم معاملة الفلسطنيين كضحايا، بل كمعتدين، ما يعني تبني رواية المتطرفين بإسرائيل. وهذا تحول كبير في السياسة الخارجية لفرنسا، والتي بدأت مع الجمهورية الخامسة، عندما أعلن دوغول التخلي عن الدعم المطلق الذي قامت به الجمهورية الرابعة بما فيه مساعدة إسرائيل في برنامجها النووي، وتزويدها بالسلاح المتطور. وهو ما يعكس التحول الذي عرفته سياسة “الكي دورسي” الذي تم إبعاده عن القرار في السياسة الخارجية لهذا البلد، والتي أسندت الى خبراء بالإليزيه، أغلبهم في بداية المشوار السياسي، وليست لهم اية تجربة سياسة. وهو ما يفسر فشل السياسة الخارجية لفرنسا في مناطق أخرى من العالم، خاصة بإفريقيا والمغرب العربي.
تاريخ هذه السياسة الفرنسية بمنطقة الشرق الأوسط تحولت بشكل كبير اليوم، وفقدت فرنسا دورها كوسيط يحظى بالثقة في المنطقة من أجل إيجاد حلول للقضية الفلسطينية. ورغم هذا الدعم اللامشروط، مازالت فرنسا لم تتخل بعد عن حل الدولتين أي دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل الذي يطالب به نتانياهو وحلفاؤه في اليمين الفاشي والعنصري.
تاريخيا، كانت فرنسا الى جانب إسرائيل وبداية المشروع الاستعماري، ففي سنة 1947 صوتت على قرار الأمم المتحدة الذي أقر بتقسيم فلسطين إلى دولتين دولة عربية ودولة يهودية. وظلت فرنسا وقية لهذا المشروع الاستعماري الى جانب بريطانيا، وخلال أزمة السويس سنة 1956، وقفت الى جانب إسرائيل ضد مصر.
والأمر نفسه حدث خلال حرب الأيام الستة التي نشبت بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا والعراق والأردن بين 5 يونيو 1967 والعاشر من الشهر نفسه، وأدت إلى احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، وهو ما شكل صدمة للبلدان المجاورة.
بعد هذه الحرب، أخذ الجنرال دوغول قرارا بوقف تزويد إسرائيل بالأسلحة ودعم قرار مجلس الأمن للأمم المتحدة بإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية. وكان تحولا في الموقف الفرنسي وسياستها بالمنطقة بمعارضة سياسة الاحتلال، بل إنها طورت علاقاتها بالبلدان القومية العربية آنذاك مثل العراق. مما جعل فرنسا تبتعد عن سياسة إسرائيل التوسعية وتطوير علاقاتها بباقي البلدان العربية.
لكن هذه القطيعة السياسية بين البلدين سوف تنتهي مع فرنسوا ميتران ممثل الحرب الاشتراكي، والذي كان قريبا من حزب العمل، وقام بزيارة إسرائيل، وهي أول زيارة لرئيس فرنسا حيث عبر عن صداقته لإسرائيل، لكنه في نفس الوقت لم يتجاهل حقوق الفلسطينيين واستقبل بباريس ياسر عرفات الذي كانت تعتبر إسرائيل منظمته، أي منظمة التحرير الفلسطينية، منظمة «إرهابية.» وبالتالي يمكن القول رغم قربه من إسرائيل لم يتخل عن حقوق الفلسطينيين.
ونفس السياسة سار عليها جاك شيراك وهو الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وحقهم في دولة ذات سيادة. وفي هذا الإطار، زار رام الله سنة 1996 وتميز شيراك أحيانا بخطاب حاد تجاه إسرائيل التي لم تكن كعادتها تحترم التزاماتها بالسلام تجاه الفلسطينيين. الجميع يتذكر حادثة القدس وصرامة جاك شيراك تجاه القوات الإسرائيلية التي أرادت منعه من التواصل مع الفلسطينيين، وهو ما جعل الرئيس الفرنسي الرجل الأكثر شعبية في تاريخ فرنسا والعالم العربي والإسلامي.
اليوم، تراجعت السياسة الفرنسية بالمنطقة رغم مطالبتها بحل الدولتين، الذي يبق مجرد تذكير بالمبدأ وتجنب انتقاد سياسة إسرائيل الاستيطانية وسياسة الإبادة ضد سكان غزة والقمع المستمر للفلسطينيين ونزع أراضيهم بالضفة الغربية.
سياسة تبني رواية دولة الاحتلال بدأت مع رحيل جاك شيراك، وتحولت بشكل جذري مع فرنسوا هولاند بسياسة الدعم اللامشروط لإسرائيل والتخلي عن سياسة متوازنة، وهو ما يتم مع إيمانويل ماكرون اليوم حيث الدعم اللامشروط لإسرائيل ومنع التظاهرات المؤيدة للسلام ووقف الحرب بغزة، وقمع المتظاهرين، من خلال الرقم القياسي للغرامات ضدهم. وهو ما يجعل الحكومة الفرنسية في علاقة توتر مع أكبر جالية عربية ومسلمة بأوروبا مستقرة فوق أراضيها. ولأسباب انتخابية ضيقة ومجارات رأي عام فرنسي أصبح أغلبه محافظا وقريبا من أفكار اليمين المتطرف الذي سوف يصل الى الحكم بفرنسا في الانتخابات المقبلة، وبكل تأكيد، لأن كل الطبقة السياسية أصبحت تركض وراء أفكاره، وتنافسه عليها، خاصة وسط اليمين الكلاسيكي والاغلبية الحاكمة حاليا.
لقد كان بإمكان فرنسا التي تتوفر على أكبر جالية مسلمة وأكبر جالية يهودية بأوروبا، لعب سياسة متوازنة من أجل سلم حقيقي بالمنطقة وحل الدولتين، للشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي، لكن سياسة الركض وراء الاستطلاعات والطموحات الانتخابية الضيقة ستحول باريس إلى عاصمة تتبنى الرواية الرسمية لإسرائيل، وإلى تابع لها، وبدون أي تأثير بالبحر المتوسط والشرق الأوسط.

الكاتب : باريس .. يوسف لهلالي - بتاريخ : 08/11/2023

التعليقات مغلقة.